16-09-2025 07:19 PM
بقلم : د.محمود الحبيس
دولة الرئيس الأكرم،
في خضم الحديث عن التوجّه لدمج وزارتي التربية والتعليم العالي، تبرز تساؤلات مشروعة لا بد من طرحها على الملأ: هل نحن أمام مشروع إصلاحي حقيقي سيؤسس لجودة تعليمية، أم أننا بصدد قرار إداري قد يُدخل منظومتنا في تعقيدات جديدة نحن في غنى عنها؟
لكن الحيرة لدي ان تلك الخطوة التي برزت سابقا بمحاولات لدمج وزارة التعليم العالي مع وزارة التربية والتعليم قد تم التراجع عنها ..فقد تم تدارك النتائج والضربات التي لحقت بها تلك المحاولات ..فتم التراجع.
أولًا: ماذا تعني خطوة الدمج؟
الدمج يعني أن تتحول الوزارتان إلى وزارة واحدة ضخمة تدير كل ما يتعلق بالتعليم، من المراحل المدرسية الأولى حتى الجامعات والبحث العلمي. اذ قد يبدو الأمر من الوهلة الأولى تنظيمًا إداريًا جذابًا، لكنه في عمق التجارب العالمية كان محفوفًا بالمخاطر.
وهنا لا بد من التوضيح، حتى لا يلتبس الأمر: ان قرار الدمج لا علاقة له بهيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي وضمان الجودة، فهذه الهيئة ستبقى قائمة وموجودة بحكم القانون، لكن عملها سيظل بحاجة إلى مظلة وزارية مستقرة تتيح لها ممارسة دورها بفاعلية بعيدًا عن تضارب الصلاحيات أو مركزية القرار وان تنأى الهيئة عن تضارب المصالح وتبقى مؤسسة وطنية عليا مهمة في القطاع وينظر اليها اداة للجودة .
ثانيًا: ماذا تقول تجارب الدول الأخرى؟
نتعرض الى تجارب دول :
أوروبا
في المملكة المتحدة جرت محاولات دمج بعض صلاحيات التعليم العالي مع التربية، لكنها سرعان ما فشلت بسبب تضارب الأولويات. الجامعات احتاجت لاستقلالية أوسع، والمدارس احتاجت لسياسات مختلفة، ولم تنجح وزارة واحدة في الجمع بين الاثنين او الامرين.
فرنسا وألمانيا حافظتا على الفصل الصريح: وزارة للتربية وأخرى للتعليم العالي والبحث العلمي. والسبب واضح: متطلبات الجامعة تختلف جذريًا عن متطلبات المدرسة.
فنلندا تُعد استثناءً، إذ لديها وزارة واحدة للتعليم والثقافة، لكنها نجحت لأن الجامعات هناك مستقلة ماليًا وأكاديميًا، ولأن النظام الإداري لا يقوم على المركزية بل على اللامركزية المؤسسية.
أفريقيا
في السودان جرت تجربة دمج مماثلة، لكنها أدت إلى تراجع كبير في جودة الجامعات وفقدانها للاستقلالية الأكاديمية.
نيجيريا واجهت المصير نفسه، واضطرت إلى إعادة الفصل بعد سنوات من التعثر.
آسيا
في ماليزيا اتضح أن الدمج جعل الجامعات تخضع لقرارات ذات طابع "مدرسي"، وأفقدها المرونة في البحث العلمي، ما دفع السلطات لاحقًا لإعادة مراجعة التجربة.
أمريكا اللاتينية
في دولة مثل المكسيك والبرازيل أظهرت التجارب أن الدمج لم يحقق وفورات مالية حقيقية، بل أدى إلى مركزية قاتلة عطّلت قدرة الجامعات على التطوير، واضطرت بعض هذه الدول لإعادة النظر في القرار.
النتيجة المستخلصة من التجارب: معظم الدول التي جرّبت الدمج فشلت أو تراجعت عنه، باستثناء حالات نادرة مثل فنلندا، لكنها حالات تستند إلى مقومات مؤسساتية ومالية لا نمتلكها في الأردن.
في الاردن نجد الشكاوي المتعددة التي تحدث في مؤسسات التعليم العالي المختلفة الرسمية والخاصة ..
ثالثًا: واقع الأردن المختلف
نحن في المملكة الأردنية الهاشمية لا نملك في الوقت الحالي المقومات المالية الكافية لتعويض أي إخفاق محتمل في تجربة الدمج.*
لدينا قوانين وتشريعات خاصة مثل قانون التعليم العالي والبحث العلمي وقانون الجامعات الأردنية، وهذه القوانين بُنيت على مبدأ الفصل بين التربية والتعليم العالي، وليس الدمج.
صحيح أن هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي وضمان الجودة ستبقى موجودة، لكن السؤال: كيف ستعمل الهيئة بفاعلية في ظل وزارة مركزية ضخمة قد تُبطئ قراراتها أو تُضعف دورها الرقابي؟
رابعًا: المخاطر الحقيقية للدمج
1. مركزية القرار: وزارة واحدة ستُدير كل شيء، من المناهج المدرسية إلى سياسات البحث العلمي، وهو عبء إداري هائل قد يؤدي إلى بطء القرارات وفقدان المرونة.
2. تضارب الصلاحيات: دمج المديريات والهيئات تحت مظلة واحدة يفتح الباب لتداخل المسؤوليات وضعف التنسيق.
3. ضعف الجامعات الخاصة: الرقابة قد تصبح شكلية بسبب ضغط الأعمال الوزارية الأخرى.
4. كلفة التراجع: إذا فشل الدمج، كم نحتاج من سنوات وموارد مالية وتشريعات لنعود إلى النقطة التي نحن عليها اليوم؟
خامسًا: أسئلة مفتوحة لدولة الرئيس
من هي الجهات الداخلية والخارجية التي تشجع على هذا الدمج؟ وما هي أهدافها؟
إذا كانت هناك دراسة جدوى، لماذا لم تُنشر علنًا ليستفيد منها الخبراء والباحثون والرأي العام؟
هل الإصلاح التعليمي المنشود سيتحقق بالدمج الإداري، أم أنه يحتاج إلى إصلاح تشريعي وتمويلي ومؤسسي أشمل؟
هل نحن مستعدون لتحمّل كلفة قرار استراتيجي كهذا في ظل ظروف مالية صعبة.
دولة الرئيس،
لسنا ضد الإصلاح، بل نحن أكثر من يتمنى أن يرى التعليم في وطننا يتطور ويواكب العالم. لكن الإصلاح لا يعني بالضرورة الدمج، والتجارب الدولية خير شاهد على أن هذه الخطوة غالبًا ما تتحول إلى مغامرة غير محسوبة.
فإذا كانت معظم الدول قد تراجعت بعد أن دفعت ثمن المحاولة، فلماذا لا نتعلم من تجاربها بدل أن نعيد الخطأ ونكتشف لاحقًا أننا كنا على الطريق الخطأ؟
*إنها دعوة صريحة للتأني يا دوله الرئيس، للنقاش العام، وللنظر بعين الاعتبار إلى التجارب العالمية قبل أن نُقدم على خطوة قد نندم عليها طويلًا.*دولة الرئيس الأكرم،
الذي دفعني إلى كتابة هذه المقالة هو ما سمعته عنكم وما لمسته من طريقة أداء مختلفة، تقوم على الإصغاء إلى النصيحة قبل أن تتحول مستقبلاً إلى انتقاد لاذع. ومن هنا أجد من واجبي أن أضع بين يدي دولتكم هذه الملاحظات في وقتها المناسب.
إن من يروجون لقرار الدمج يتحدثون وكأنها "توجيهات عليا"، بينما جلالة الملك ـ كما أشار بنفسه ـ لم يطرح مثل هذه التوجيهات بشكل مباشر. وحتى لو جاءت الرؤية الملكية السامية في هذا الاتجاه، فهي تستحق أن تُخضع لاختبارات دقيقة، في "مختبر للعناية المركزة"، حتى تخرج رؤية ناضجة مكتملة الأركان، لا مجرد مولود ناقص النمو. فجلالة الملك لا يريد إلا الأفضل والأحسن لهذا الوطن.
دولة الرئيس،
إن خبرتي السابقة في وزارة التعليم العالي، وما أعيشه اليوم من واقع عملي داخل الجامعات، تجعلني مؤهلاً لأطلق هذا النداء لدولتكم: فلنستمع لتجارب العالم، ولنقرأ الواقع المحلي بعمق، قبل أن نغامر بقرار قد تكون تبعاته أثقل مما نتصور.
مع خالص الاحترام والتقدير،
باحث ومتابع في شؤون التعليم العالي
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
16-09-2025 07:19 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |