16-09-2025 03:16 PM
بقلم : فيصل تايه
في خطوة أثارت جدلاً واسعاً ، كشف الصحفي الأستاذ "هاشم الخالدي" مؤخراً وعبر صفحته على "فيسبوك" قضية بالغة الأهمية ، بعد أن تدفقت إليه رسائل عديدة من معلمين واولياء امور تصاعدت أصواتهم يشكون فيها من ظاهرة ضعف الادارات المدرسية ، بسبب العزوف عن التقدم لهذا المنصب الإداري في المدارس ، وهو موضوع لم يعد يحتمل الصمت أو التجاهل ، فقد أصبح ذلك يشكل أزمة حقيقية تهدد استقرار البيئة التعليمية ، ما يعكس حجم المعاناة في الميدان التربوي، وتكشف أن الإدارات المدرسية باتت تعاني من فراغ قيادي حقيقي لا يسد إلا عبر التكليف المؤقت، والذي اضطرت اللجوء له مديريات التربية والتعليم كحل اضطراري ، وهو حل ترقيعي أشبه بإسعاف عاجل يبقي المدرسة على قيد الحياة لكنه لا يعالج أصل الداء ، اذ ان من المقلق أن غالبية المدارس لم تعد تجد من يتقدم لتحمل مسؤولية الإدارة .
الواقع يؤكد أن منصب "مدير مدرسة" أو حتى "مساعد مدير المدرسة" لم يعد مغنماً ولا فرصة للتأثير او تطوير العملية التعليمية، بل عبئاً ثقيلاً ، فالمدير أو المساعد غارق اليوم في تفاصيل مرهقة من تقارير وكتب رسميه وتعليمات يومية، وامام مساءلات لا تنتهي من ادارات المديريات والوزارة وأولياء الأمور والمجتمع المحلي ، وبينما تلقى على كاهله كل المسؤوليات ، وتسحب من يديه الصلاحيات من خلال الاملاءات وتدخل المسؤولين في القرارات وتقويض استخدامه سلطاته الرسميه ، فيجد نفسه محاسباً على ما لا يملك السيطرة عليه ، هذه المفارقة وحدها كفيلة بجعل الإدارة المدرسية مقبرة الطموح لا منصة القيادة.
ان ما يزيد الوضع صعوبة أن الحوافز المشجعة تكاد تكون معدومة ، فكيف يطلب من المدير او المدير بالوكالة او المعلم الذي يتم تكليفه بأن يتحمل مسؤولية إدارة مدرسة تضم مئات الطلاب وعشرات المعلمين في ظل ضغوط هائلة ، وعجز مالي حاد ، فبعض المدراء يؤكدون انهم يضطرون لإخراج مبالغ من جيوبهم الخاصة لتغطية نفقات ومصاريف المدرسة من متطلبات عاجلة ، في وقت يفترض من الوزارة الالتفات الى ميزانيات المدارس وتحمل عجزها أو المساعدة في تغطية احتياجاتها ، فهذه التجارب تحولت إلى رسائل تحذير صريحة تمنع المجازفة بخوض التجربة الإدارية ، فكيف نتوقع من الميدان ان يتشجع لخوض هذه التجربة في ظل هذه المعادلة الجائرة؟
اضافة إلى ذلك ، فإن عزوف الكفاءات عن المناصب الإدارية يتفاقم بسبب ان معظم التعيينات كمدراء أو مساعدين قد لا تتم وفق أسس واضحة مبنية على العدالة في الاختيار بحسب الكفاءة والأداء ، بل غالباً تكون وفق ترشيحات معروفه وتدخلات ، ما يجعل النتائج متوقعة مسبقاً ، اضافة أن غياب المتابعة الحقيقية للميدان والفجوة الكبيرة بين المركز والمدارس ، والتركيز الأساسي للمديريات على ضبط الحضور والغياب ، ما يجعل الإدارة المدرسية تبدو كمسؤولية شكلية أكثر منها منصب قيادة حقيقية ، والامر الذي يزيد من ذلك تعديل وإلغاء مخزون أصحاب الدور سنوياً ، ما يخلق شعوراً بعدم العدالة ويزيد العزوف عن التقدم للمواقع الإدارية ، ويجعل الحاجة لإصلاح هذه الممارسات امراً متوافقاً تماماً مع أهداف رؤية التحديث الإداري للملكة لتعزيز الكفاءة، وتمكين الموظفين، وتحقيق بيئة مدرسية عادلة وجاذبة للكفاءات.
ما نتابعه في الميدان التربوي اليوم يروي قصصاً مريرة لمديرين ارهقهم الضغط حتى اصيب بعضهم بمشكلات صحية، وآخرين تعرضوا لتحقيقات مطولة بسبب قصور اداري لم يكن لهم فيه يد ، اذ ان هذه التجارب تحولت الى رسائل تحذير صريحة ، وبطبيعة الحال، لا يمكن اقناع المعلمين بالمجازفة بقبول تسلم "ادارة مدرسة" في ظل صورة ذهنية مشوهة تؤكد أن الإدارة المدرسية عبء ثقيل بلا مقابل.
ان استمرار هذا الوضع يعني اننا امام قنبلة صامتة ، فما يجري يهدد صميم العملية التعليمية، فالمدرسة بلا قيادة مستقرة تفقد توازنها وبوصلتها التربوية وتتحول إلى مجرد مبنى يدار بالحد الأدنى من الإجراءات والمتطلبات ، و"التكليفات المؤقتة" التي تلجأ اليها بعض مديريات التربية ليست سوى حلول هزيله وهشة تضمن فتح الأبواب صباحاً واغلاقها ظهراً، لكنها لا تصنع استقراراً ولا تطويراً.
لقد أثبتت التجربة أن تجاهل هذه الأزمة يعني مزيداً من الانهيار في ثقة الميدان بالوزارة ، ومزيداً من المدارس التي تعيش بلا قيادة فاعلة ، وإذا لم تتحرك الوزارة اليوم قبل الغد وتتابع عمل المديريات ، فإن الثمن سيدفعه أبناؤنا الطلاب، الذين يجدون انفسهم في مدارس بلا روح ولا قيادة .
هنا يظهر الدور الحيوي لرؤية المملكة للتحديث الإداري، التي تسعى الى تعزيز الكفاءة المؤسسية والحوكمة الرشيدة في جميع الجهات، بما فيها التعليم ، ووفق ذلك ، فالحلول معروفة وليست عصية على التنفيذ، ولا تحتاج إلى لجان مطولة أو دراسات نظرية ، لكنها تحتاج ارادة حقيقية ، فالمطلوب اعادة هيكلة المهام الإدارية وتخفيف العبء الورقي عن المديرين وتمكينهم من استخدام صلاحياتهم الحقيقية بل وتفويضهم بالمزيد من الصلاحيات الإدارية والماليه وتمكينهم من اتخاذ القرارات التي تتناسب مع مسؤولياتهم ، بعيداً عن قرارات ارضاء المسؤولين لكسب الرضى ، فالرضى الحقيقي يقاس بنتائج العمل وأثره على الميدان ، اضافة الى تقديم الحوافز التي تعيد للمنصب مكانته كاعادة النظر بالعلاوة ونظام المكافآت .
كما وان الأهم ان تبادر الوزارة إلى استنبات القادة الميدانيين من خلال الاستثمار الجاد في برامج إعداد وتأهيل قادة المدارس لمواجهة الضغوط بكفاءة ، فالميدان لا يخلو ممن تجد فيهم صفة القيادة ، اضافة الى ضرورة تغيير الصورة الذهنية السلبية عبر إبراز قصص نجاح حقيقية لمديرين عبر وسائلها المختلفة ، وتعكس تأثير القيادة المدرسية الإيجابي ، بدلاً من ترك الميدان اسيراً لقصص المعاناة والإحباط ، كل ذلك ليس مجرد مطلب عاجل ، بل خطوة استراتيجية تتوافق مع أهداف رؤية التحديث الإداري في تحديث العمل الإداري وتمكين الموظفين، وتحسين جودة الخدمات التعليمية، وبناء بيئة مدرسية محفزة وجاذبة للكفاءات ، وتعزيز القيادة الفاعلة، وتحقيق جودة مستدامة .
واخيرا فان ما اثاره الصحفي "هاشم الخالدي" جرس إنذار صريح، وما لم تتحرك الوزارة بشكل عاجل لمعالجة هذه الأزمة من جذورها، ستظل الإدارة المدرسية عبئاً يهرب منه الجميع، وستبقى مدارسنا رهينة للتكليفات "التجريبية" المؤقتة، فيما يدفع أبناؤنا الطلاب الثمن الأكبر.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
16-09-2025 03:16 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |