حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الثلاثاء ,16 سبتمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 4082

زياد فرحان المجالي كتب: خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في قمة الدوحة: وثيقة في زمن الغبار العربي

زياد فرحان المجالي كتب: خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في قمة الدوحة: وثيقة في زمن الغبار العربي

 زياد فرحان المجالي كتب: خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في قمة الدوحة: وثيقة في زمن الغبار العربي

16-09-2025 08:53 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : زياد فرحان المجالي
في قاعات القمم، اعتاد العرب أن يجلسوا تحت سقوف فخمة، تزينها الأعلام والشعارات، وتحيط بها عدسات المصورين، لكن ما يخرج غالبًا لا يتجاوز بيانات باهتة تُقرأ على عجل، وتُنسى مع أول نشرة أخبار. غير أن قمة الدوحة الأخيرة بدت مختلفة؛ إذ انعقدت في لحظة فارقة من تاريخ المنطقة، لحظة تتداخل فيها الجغرافيا بالدم، وتتصادم فيها الطائرات بالصواريخ، ويُكتب فيها التاريخ لا بالحبر وحده، بل بالحديد والنار.
في تلك القاعة، كانت الوجوه مألوفة: زعماء أنهكتهم الاجتماعات، كلمات تتكرر كما لو أنها محفوظة عن ظهر قلب، وابتسامات دبلوماسية تخفي خلفها حسابات متناقضة. لكن وسط هذا الركام من البروتوكول، ارتفع صوت بدا مختلفًا في نبرته ومضمونه. لم يركن إلى التوازنات الرمادية، ولم يتوار خلف الاعتذاريات المعتادة، بل جاء واضحًا، صريحًا، حادًّا في معانيه: إنه خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني، الذي بدا كأنه وثيقة سياسية أُعدّت لا لتؤدي واجبًا شكليًا، بل لتسجَّل في أرشيف اللحظات التاريخية.
الخطاب كوثيقة سياسية
من يستمع إلى الخطاب بتمعّن يدرك أنه لم يكن نصًا تقليديًا، بل بيانًا سياسيًا متكاملًا، يربط بين الحاضر والماضي، ويضع المستقبل على المحك. فقد تحدث الملك عن الاعتداء على قطر باعتباره جرس إنذار للأمة كلها، لا مجرد حادث أمني عابر. لم ينظر إليه معزولًا، بل وضعه في سياق الانتهاكات المتكررة: من حصار غزة إلى اقتحامات القدس، ومن الاستيطان في الضفة إلى قصف الدوحة.
هذا الربط بين الساحات هو ما أعطى الخطاب وزنه؛ لأنه أعاد إلى الأذهان أن المعركة واحدة، وإن تنوعت الجبهات. فالمشروع الصهيوني ليس سلسلة أزمات منفصلة، بل مسار ممتد، هدفه توسيع النفوذ على حساب أرض العرب وكرامتهم وسيادتهم. ومن هنا، جاء الخطاب بمثابة وثيقة تُعلن أن ما جرى في الدوحة ليس إلا فصلًا جديدًا في رواية طويلة، وأن الرد يجب أن يكون بحجم الرواية لا بحجم الفصل وحده.
ما وراء الكلمات: ثلاث رسائل كبرى
أولًا: الرسالة إلى الداخل الأردني
أكد الملك، بوضوح، أن الأردن لا يزال وفيًا لرسالته التاريخية. فالوصاية الهاشمية على المقدسات ليست ورقة سياسية، بل عهدٌ ودمٌ وتاريخ. الرسالة كانت واضحة للداخل الأردني: أن الضغوط مهما اشتدت، والأزمات مهما تعاظمت، فلن تدفع الأردن إلى التخلي عن ثوابته، ولن تجبره على المساومة في ما يمس فلسطين والقدس.
ثانيًا: الرسالة إلى الفضاء العربي والإسلامي
الخطاب وجّه تنبيهًا استراتيجيًا للقادة المجتمعين: إن أمنكم مترابط، وإن مصيركم واحد. الاعتداء على الدوحة أو على غزة أو على القدس ليس شأنًا محليًا، بل شأن عربي – إسلامي جامع. التفكك لن يحمي أحدًا، والانعزال لن يصنع أمنًا. وكأن الملك أراد أن يقول: إذا دخل الخطر بيت الجار، فلن يتأخر عن بيتك.
ثالثًا: الرسالة إلى المجتمع الدولي
هنا كان الملك حادًا وصريحًا. خاطب القوى الكبرى بلهجة واضحة: صمتكم ليس حيادًا، بل تواطؤ. اكتفاؤكم بالبيانات ليس موقفًا، بل هروب من المسؤولية. لقد وضع الخطاب العالم أمام امتحان لا مفر منه: إما أن تقفوا إلى جانب العدالة والشرعية الدولية، أو أن تسقطوا في اختبار الأخلاق والإنسانية.
السياق التاريخي: استمرارية الموقف الأردني
حين نتأمل الخطاب في سياقه التاريخي، ندرك أنه امتداد لمسار طويل من الثبات الأردني. فمنذ أن حمل الملك الحسين كوفيته في قمة بغداد عام 1990 وهو يقول: "لن نكون على حساب أحد، لكننا لن نترك أحدًا وحده في الميدان"، والأردن يمضي في خط واحد: الاعتدال الصلب.
اليوم، في قمة الدوحة، بدا الملك عبدالله الثاني كأنه يستعيد ذلك الخط نفسه، لكن بلغة الزمن الراهن. لغة تُدرك أن المشهد تغيّر: لم تعد القضية الفلسطينية وحدها تحت النار، بل دخلت معها عواصم عربية، وأصبحت الخريطة كلها مرشحة للاهتزاز. ومع ذلك، ظل الصوت الأردني واحدًا: صوت الدفاع عن الحق، ولو كلّف ذلك أثمانًا باهظة.
بين الخطاب والواقع
قد يتساءل البعض: ما قيمة الخطاب إذا لم يتبعه فعل؟ وهنا تكمن دقة القراءة. فالخطاب لم يكن نهاية بحد ذاته، بل كان دعوة إلى بداية جديدة. دعوة إلى أن يخرج العرب من أسر البيانات، وأن يدخلوا زمن الأفعال.
لقد رسم الملك عبدالله الثاني خريطة طريق: التضامن ليس شعارًا، بل مسؤولية. والمواجهة لا تكون بالإنكار، بل بالفعل السياسي والدبلوماسي وربما الاقتصادي. أما الاكتفاء بالتفرج، فهو أقصر الطرق إلى خسارة الجميع.
الدلالات الاستراتيجية
الخطاب كشف أن الأردن لا يتحدث من موقع المراقب، بل من موقع المعنيّ المباشر. فالموقع الجغرافي يجعل المملكة على تماس دائم مع الخطر: شرقًا العراق، غربًا فلسطين، شمالًا سوريا، وجنوبًا الخليج. أي زلزال في هذه الجبهات يصل ارتداده إلى عمّان. ولذلك، فإن خطاب الدوحة لم يكن مجاملة لقطر بقدر ما كان دفاعًا عن الأمن القومي الأردني، الذي يراه الملك متشابكًا مع أمن العرب جميعًا.
أسلوب الخطاب: بلاغة في خدمة الموقف
في لغة الملك، ثمة وضوح نادر في زمن الغموض. كلمات قليلة، لكنها مشحونة بمعانٍ كبيرة. لم يستخدم لغة خشبية، بل لغة تُسمع في الداخل والخارج على السواء. بلاغة الخطاب لم تكن زخرفة لغوية، بل أداة سياسية مقصودة: فحين يقول إن صمت العالم تواطؤ، فإنه يضع حدًا للفوارق بين الموقف القانوني والموقف الأخلاقي، ويجعل العالم كله في دائرة المساءلة.
ما بعد الدوحة: ماذا بعد الخطاب؟
السؤال الأهم ليس ماذا قيل، بل ماذا سيُفعل. هل ستلتقط العواصم العربية الرسالة وتحوّلها إلى خطوات عملية؟ هل ستبقى القمة علامة فارقة، أم تُطوى في أرشيف الصور الجماعية؟
المؤكد أن خطاب الملك عبدالله الثاني رفع السقف، فلم يعد مقبولًا أن يكتفي العرب بالبيانات. وإذا كان الأردن قد أعلن صراحة أن الصمت تواطؤ، فإن الكرة الآن في ملعب البقية: إما أن يتحركوا جماعة، أو أن يتحملوا فرادى عواقب التشتت.
صوت الحكمة المستمر
خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني في قمة الدوحة لم يكن مجرد كلمة في سجل المؤتمرات. لقد كان فعلًا سياسيًا، ورسالة واثقة، وصوتًا للعقل والضمير العربي في زمن الغبار. لم يُلقَ ليُنسى، بل كُتب ليُسجَّل، وليكون علامة على أن في الأمة من لا يزال يملك الشجاعة ليقول: إن الحق لا يُباع، وإن الكرامة لا تُقايض.
قد يختلف المراقبون على أثر الخطاب، لكنهم سيتفقون على أنه وثيقة تُلخّص موقف الأردن، وتكشف أن هذا البلد الصغير في موارده، الكبير في مواقفه، لا يزال يضع الكرامة فوق الحسابات، ويجعل من صوته شاهدًا للتاريخ في زمن يحاول فيه البعض دفن الحقيقة تحت ركام المصالح.
صفحة زياد فرحان المجالي على فيسبوك











طباعة
  • المشاهدات: 4082
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
16-09-2025 08:53 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
ما مدى رضاكم عن أداء وزارة الاتصال الحكومي بقيادة الوزير محمد المومني؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم