13-09-2025 08:59 AM
بقلم : عقيد امن عام متقاعد/ محمد جميل الخطيب
في لحظة سياسية مفصلية تعيد ترتيب موازين الخطاب في الشرق الأوسط، جاء خطاب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي أمام مجلس الأمن الدولي ليؤسس لتحول نوعي في لهجة ومضمون السياسة الخارجية الأردنية. لم يكن الخطاب استعراضا دبلوماسيا عابرا، ولا رد فعل مؤقتا على مستجدات إقليمية، بل مثّل موقفا استراتيجيا متماسكا يدمج بين الثوابت الأخلاقية والسياسية، ويعكس وعياً رسميا عميقا بمكانة الأردن، ومسؤوليته، وحدود صبره.
تميز خطاب الصفدي، في بنيته اللغوية ومضامينه السياسية، بكونه مرافعة سياسية وأخلاقية شاملة ضد العدوان الإسرائيلي المستمر على الشعب الفلسطيني، وضد الهجوم الإسرائيلي السافر على دولة قطر، الدولة التي كانت، بحسب الخطاب، تسعى حينها إلى تحقيق اختراق إنساني بوساطة تبادل الأسرى تمهيدا لوقف إطلاق النار في غزة. الصفدي، بكلمات واضحة وصريحة، وصف إسرائيل بأنها "حكومة مارقة" ملطخة بدم الأبرياء، ولا تردعها قوانين ولا تحترم المواثيق الدولية، وتستمر في جرائمها بفضل ما تحظى به من "حصانة دولية غير مبررة".
لكن الأهم من الخطاب نفسه، هو ما يتصل بما بعده. فالسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن للإعلام الأردني أن يُدوّل هذا الخطاب، وأن يحوّله من موقف داخل قاعة مجلس الأمن إلى رسالة عالمية تُحدث الأثر، وتكسر صمت المجتمع الدولي، وتعيد رسم الرواية السائدة حول الصراع؟ وهل يمكن للإعلام، بوصفه أداة للتأطير وإعادة الإنتاج الرمزي للواقع، أن يكون حليفا حقيقيا للدبلوماسية الأردنية لا مجرد ناقل تقني لوقائعها؟
إن أولى مهام الإعلام في هذا السياق هي أن يتحرر من نموذج التغطية الخبرية المجردة، لينتقل إلى الفعل السياسي الرمزي. فالمطلوب ليس أن يُبلّغ المتلقي بمحتوى الخطاب فحسب، بل أن يعمل على ترجمته إلى سردية متكاملة، قابلة للتداول عالميا، وقادرة على التأثير في الرأي العام الغربي ومراكز صنع القرار الدولي. وهذا يقتضي جملة من الخطوات المنهجية، تبدأ بإنتاج نسخة احترافية مترجمة من الخطاب، تنقله بدقة إلى اللغات العالمية الأساسية، وتُرفق بمقاطع فيديو قصيرة مترجمة أو مرفقة بنصوص توضيحية تُبرز أبرز نقاط الخطاب وأبعاده الحقوقية والسياسية.
من الضروري كذلك أن يتموضع الإعلام الأردني ضمن الشبكات الإعلامية الدولية، لا أن يكتفي بخطابه المحلي. وهنا لا بد من إشراك الصحف العالمية الكبرى، والمجلات المتخصصة، ومراكز الفكر الدولية، في معركة الوعي التي يخوضها الأردن. يجب إرسال الخطاب، وتحليلاته، ورسائله، إلى هذه المنصات، مصحوبة بمقالات رأي وبيانات تحليلية تشرح أبعاده في إطار قانوني وإنساني، وتربط بين الموقف الأردني والمبادئ الكونية التي يتغنّى بها الغرب، ولكنه غالبا ما يفشل في تطبيقها حين يتعلق الأمر بإسرائيل.
على الإعلام أيضا أن يتبنّى استراتيجية رقمية ذكية، من خلال الحملات الإعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي توظف اللغة البصرية والمحتوى السريع للتأثير على جمهور متنوع، لا سيما في ظل انزياح الثقل الإعلامي من المؤسسات التقليدية نحو المنصات الرقمية.
فهاشتاغات مثل #JordanForJustice أو #StopIsraeliAggression، إذا ما دُعمت بمحتوى بصري احترافي ومقاطع مؤثرة من الخطاب، قادرة على تحقيق انتشار واسع وتوجيه الأنظار إلى حقيقة الموقف الأردني باعتباره صوتا عقلانيا وأخلاقيا في وسط هذا التوحش السياسي والإعلامي.
إن الإعلام، في لحظات كهذه، لا يجب أن يبقى محايدا أو تقنيا. بل عليه أن يمارس دوره كمقاومة رمزية، تؤطر الموقف الأردني وتقدمه للعالم بوصفه تعبيرا عن التزام دولة بمبادئ القانون الدولي، ورفضا مزدوجا لجرائم الاحتلال ولمعايير الصمت والازدواجية.
فالقضية الفلسطينية، كما
يُفترض أن يعيد الإعلام تقديمها، لم تعد فقط قضية احتلال، بل أصبحت اليوم مرآة لانهيار النظام الأخلاقي العالمي، ومختبرا لصدق القيم التي يتبناها الغرب نظريا ويتخلى عنها عمليا.
تدويل الخطاب الأردني يتطلب أيضا من الإعلام الرسمي الأردني أن يُراجع بنيته الخطابية وأدواته التعبيرية. فلا يكفي الاعتماد على تغطية إعلامية تقليدية، بل لا بد من بناء خطاب إعلامي استراتيجي، يجمع بين المهنية العالية، واللغة الإنسانية، والقدرة على مخاطبة الآخر من موقع المبادئ المشتركة. وهنا يمكن الحديث عن ضرورة إنشاء وحدة إعلامية متخصصة داخل وزارة الإتصال الحكومي أو وزارة الخارجية، تكون مهمتها صياغة المحتوى الإعلامي الأردني الموجّه دوليا، والتنسيق مع السفارات والبعثات الدبلوماسية في الخارج لإيصاله إلى الجهات المؤثرة.
ولا يمكن الحديث عن التدويل دون الإشارة إلى أهمية التحالف مع الإعلام العربي والإقليمي، الذي يمكن أن يشكّل قوة دعم وتضامن تعزز من أثر الخطاب الأردني، وتعيد بناء السردية العربية بشكل جماعي لا فردي. فالأردن، حين يقول إن أمن قطر هو من أمنه، لا يتحدث بلغة مجاملة، بل يؤسس لتحالفات قائمة على القيم، لا على المصالح العابرة.
في المحصلة، لا يجب التعامل مع خطاب الصفدي كمجرد لحظة سياسية، بل كعلامة فارقة في مسار إعادة تموضع الأردن على خارطة الفعل الإقليمي والدولي. وهو خطاب، رغم قوته، يحتاج إلى ظهير إعلامي قوي، متعدد الوسائط، واسع الانتشار، قادر على تدويله وترجمته إلى لغة يفهمها العالم، ويحترمها، ويتفاعل معها. فالكلمة، حين تُقال في مجلس الأمن، تُحدث صدى، لكن حين تُدوّل وتُروى وتُعاد إنتاجها إعلاميا، قد تُغيّر الموازين.
ليس المطلوب من الإعلام الأردني أن ينقل ما قيل فقط، بل أن يصوغ الوعي به، وأن يبني عليه، وأن يستخدمه كسلاح في معركة الكرامة والسيادة والعدالة. فالدولة التي تملك هذا الوضوح الأخلاقي في خطابها، تستحق إعلاما يكون على ذات الدرجة من الجرأة، والمهنية، والمسؤولية.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
13-09-2025 08:59 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |