19-08-2025 08:49 AM
سرايا - استطاعت الشاعرة الدكتورة مهى العتوم في قصيدتها (أسفل النهر) أن تلج بنا عالما أسطوريا خفيّا من خلال بواّبة اللغة التي يتمظهر بها النص، وتشكيلاتها التي رُسمت بدقة وحذَقٍ لتكون البوابة التي ننفذُ منها للعوالم الخفيّة التي كمُنت خلف اللغة المُتمظهِرة لتنتج لنا نصا غائباً (موازيا)، لا يمكن لنا أنْ نقرأه إلا إنْ نزلنا معها (أسفل النهر).
والشاعرة في هذا النص كأنّما تسعى لاستعادة عشتارَ جديدةً بعالمها السفليّ ولكن بأسلوبٍ مفارقٍ ففي حين كان عالم عشتار السفلي ممثلا للجحيم وللعذاب، هو في قصيدة العتوم عالمٌ مُشتهى يمنح الخصوصية والفرادة والخصب ...يمنح التجدُّد والشعر.
ونحن ندخل عالم القيصدة من خلال ما يُقدّمه لنا الراوي المشارك الذي هو الشاعرة بأسلوب سرديّ رشيق مُخاطِباً به فتاة غير معيَّنة، إذ قد تكون ذات الشاعرة/ آخرَها، أو تكون القصيدة...
ففي قصيدة مهى العتوم (أسفل النهر) نجد الراوي يبدأ السرد مخاطاباً الفتاة المسرود لها محدّدا المكان /الظرف (أسفل النهر) الذي هو مسرح الفعل المتوقع/المحتمل (قد تجدين) ثم يفصّل لها (المخاطبة) أنّها قد تجد سماءً خاصةً بها وحدها وهذا من باب الإغراء بالشيء الذي قد لا نتوقع منه ما نحلم به إذ أكد ذلك من خلال التضاد بين الوقع (أسفل النهر) وبين الحلم (سماءً تخصّك)،ويبدوا أنّ السارد يخاطب المسرود لها من خلفيّة يعلمانها كلاهما وهي السعيّ لامتلاك الذات وتحققها، لذلك تدعوها أن تنزلق لأسفل النهر بما للنهر من دلالات على الخصب من جانب، وعلى الحركة والتجدُّد من جانب آخر، فإنْ وصلتِ أسفل النهر (قد تجدينّ سماءً تخصُّكِ وحدكِ)،فكيف يمكن أن يحدث ذلك؟ والراوي هنا أراه راويا مشاركا عليما، فيقرأ التساؤل الذي يدور في ذهن المسرود لها، لينتقل بعد ذلك لتوجيهها نحو ما عليها فعله من خلال النصح والإرشاد لذي جاء عبر صيغة فعل الأمر (اكترثي، ضعي، اعصري، خفّي) ليصل لنتيجة مفارقة. السارد هنا يرسم للمسرود لها خطة طريق عبر مفردات مُهندَسة بدقّة ورويّة، حيث يفصّل لها ما عليها فعله كالتالي:
«أسفلَ النهر قد تجدينَ سماء تخصُّكِ وحدكِ» إغراءٌ بالنزول أسفل النهر لاحتمال وجود سمائك الخاصة بك وحدك فتحققي فرادتك بذاتك، فإنْ وجدتِ تلك السماء
«فاكترثي بالنهوض إليها» نصح وإرشاد للمسرود لها أنْ تهتم بأنْ تهبّ إليها (تلك السماء) نشيطة مسرعة، وللتأكيد على ذلك استخدم السارد حرف الفاء الذي يفيد معنى الترتيب والسرعة ...وأقرأ هنا كلاما محذوفا للسارد هو ربما: (وإلّا فاتك اللحاق بتلك السماء) فإنْ نهضتِ إليها ولحقت بها
«ضعي قمراً في ثيابك» وأول مَلحظٍ في هذا السطر المسرود أنّ السارد حذف حرف العطف قبل (ضعي)، للتأكيد على عدم التباطؤ، فكأنما يريد من المخاطبة/المسرود لها أنْها بمجرد النهوض لتلك السماء والوصول إليها أن تضع قمراً في ثيابها، ولكن لماذا القمر بالذات؟ وما الذي أراده السارد للمخاطبة/المسرود لها من وضع القمر في ثيابها؟ السارد هنا يُوجّه المخاطبة لما يمنحها التجدُّد والشباب الدائمين من خلال من خلال المحمول الدلالي الكثيف لمفردة (القمر)، سواء كان ذلك أسطوريا أو في المفاهيم الاجتماعية إذ ارتبط القمر بالشباب والتجدد والجمال والنور والقداسة كما في الأساطير، وهنا يشترك مع النهر في الحركة والتجدد والعطاء، ناهيك عن ارتباط كل منهما بالآخر، وبشكل أدقّ، حركة النهر المرتبطة مدا وجزرا بحركة القمر، «ثمّ اعصري ما تبلّل منها ومنكِ» جاءت الجملة معطوفة بـ (ثُمّ) وكأنما السارد أراد من المسرود لها /المخاطبة أنْ تتمهل وتتأنّى في الخطوة التالية؛ خطوة عصر ما تبلّلَ منها (السماء) ومنكِ (المخاطبة)، ويترك السارد تساؤلا لدى المتلقي (المسرود له غير المباشر) ما الذي تبلّل منهما؛ السماءِ والمخاطبة؟ وما الذي بلّلهما؟ وبماذا؟ أهو القمر أم النهر؟ فالراوي ترك الباب مفتوحا للتأويل، فإن كان القمر فقد بللهما بالضوء والشباب والتجدُّد والخصب وإنْ كان النهر، فقد بللهما بالماء والتجدّد والشباب والخصب، والذي تبلّل ثياب المخاطبة وبالتأكيد جسدها بالملابسة، ومن السماء سحابُها وبالتأكيد جسدها بالاحتواء...، ولكن قد يقبل الساردُ منّا تأويلا آخر هو أنّ الممخاطبة/ المسرود لها نزلت أسفل النهر؛ أسفل مياه النهر فصارت لها سماؤها الخاصة بها، حيث سطح النهر يمرئي السماء وقمرها، فغدا هناك سماءان وقمران، السماء الواقعية وقمرها وهما عامّان للجميع، بينما السماء التي تراها المخاطبة من أسفل النهر فهي سماؤها وقمرها هو قمرها الخاص تضعه في ثيابها تتوحّد به لتعصره خصبا ونورا وربما شعرا... لذلك فالسارد يتابع إرشاده للمخاطبة:
«وخفّي إلى الليل كي يتهادى إلى أسفل النهر قربكِ» وهنا نرى أنه وظّف حرف العطف الواو يفيد المشاركة ليتمّم المرادَ الفعلُ (خفّي) حيث السرعة بخفة الطير، ويمكنها ذلك بعد أن عصرت وتخفّفت ممّا تبلّلت به، ولماذا الليل؟ الليل حيث يتجلّى القمرُ كأبهى وأجمل ما يكون ضياءً، والليل تجسّد كائناً حيّاً يستجيب لنداء المخاطبة إن دعته وخفّت إليه، فهو يتهادى إلى أسفل النهر حيث هي، متبخترا متدللاً ليكون قربها
ويلتفت السارد لأهمية الليل فيأخذ ببيانها وبتفصيل بعض ما يهمّ المخاطبة منها على سبيل الإغراء بأنْ تخفّ له، مؤكداً ذلك إذ، فـ «في الليل تغدو الجميلاتُ أجملَ « حيث يمسين أقماراً متوهجة بالحلم، و» رائحة الورد تغدو بطول الممرّ « ويُشعنَ عطرهنَّ، وهنّ الورود، ليمتلئ الممرُّ به حيث يعبر الإنسان متجها نحو ذاته؛ سمائه الخاصة .
وبجملة فعلية مباغتة يفاجئنا السارد بانسحاب الموت بسبب كثرة الماء، من خلال فعل مضارع (ينسحب الموت) مؤكدا بذلك على ثيمة الاستمرار والتجدّد من خلال الفعل المضارع (ينسحب)، بما للكلمة من دلالة على الانهزام والشعور بالضعف مقابل الحياة والخصب التي يمثّلها الماء الذي يحتوي السارد والمسرود لها، حيث هما متوحدان بهذا الاحتواء في أسفل النهر.
«ينسحب الموتُ من كثرة الماء حولكِ/حولي هنا أسفل النهر مرتع عشتار) وهنا نجد الرواي المشارك يتوحد بالشخصية المرويّ لها (المخاطبة)، يوحدهما الماء الذي يلفهما أسفل النهر، هنا حيث عالم عشتار السفلي ولكنه بذات الوقت عالمٌ سفليّ مفارقٌ لعالم الأسطورة حيث هنا تتكرّس الحياة فاعلة متحركة متجددة خصيبة، رغم أنّ أسفل النهر ليس مرتعا لعشتار وحدها، بل هو «مرتع عشتار والقيّمين على النار والسرّ) وهنا أسفل النهر (مضجع الجنّ والشعر)، هنا أسفل النهر عالم ممتلئ بالحياة.. بالتجدُّد والفاعلية حيث يضطجع الجنّ بما هو كامن فيه من المقدرة على التخفّي والتجلّي وهذا هو تمام ما يمتلكه الشعر وارتباطه بالجن/ شياطين الشعر، فتمظهره بالكلام ليس هو كلُّه، بل قد يكون الكلام بوّابته، وهنا.. هنا أسفل النهر بالضبط تمتلكين القوة إذ إنك «تستندين إلى كتف الكون لا تأبهين بما أخذ النهر حتّى يوسّع قلبك منك « هنا أسفل النهر ستتوحدين بالكون الفسيح الواسع حيث عمق الرؤيا ونفاذ البصيرة وإذ ذاك لن تكترثي (بضيق العبارة حيث اتسعت الرؤيا)، فما أخذ النهر منك ضيّقَ تمظهرِك إلّا ليتسع قلبك، فتنفذ الرؤى لما وراء الحدود الفيزيائية للأشياء حيث الكون وحدة واحدة «هنا أسفل النهر ...نهر يحدّث عنك» ستصيرين عشتارَ جديدةً يرويها النهر للعصور عشقا وخصبا متجددا.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
19-08-2025 08:49 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |