04-08-2025 08:55 AM
بقلم : د. ليث عبدالله القهيوي
في زمن تتسارع فيه التحديات الداخلية والخارجية، ويزداد فيه الانكشاف الوطني بمخاطره المتعددة، تصبح وحدة الصف الوطني ليست مجرد خيار، بل ضرورة حتمية لاستدامة السيادة والحفاظ على أمن واستقرار الأردن. فالخطر الحقيقي لا يكمن في التهديدات الخارجية فقط، بل في هشاشة الجبهة الداخلية التي تهدد النسيج الوطني وتضعف مناعة الدولة أمام كل محاولات الإضعاف والتفتيت.
في هذا السياق، تأتي دعوة جلالة الملك عبدالله الثاني لتجديد عهد الوحدة وتعزيز التماسك الوطني كخريطة طريق نحو صمود دائم واستعداد حكيم لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية. لأن الأردن لا يمكن أن يحمي مكتسباته الوطنية إلا بوحدة تُصاغ من الثقة، تُدار بالحكمة، وتُصان بالعدل.
في الأوطان التي تدرك حجم المخاطر وتقرأ المتغيرات لا بردود الفعل، بل ببوصلة المستقبل، تغدو وحدة الصف ركيزة إستراتيجية في معادلة الصمود الداخلي وصناعة القرار السيادي، لا مجرد حالة معنوية أو واجب أخلاقي.
وفي الأردن، حيث تعيش الدولة في محيط إقليمي محتقن ومفتوح على كل الاحتمالات، جاءت دعوة جلالة الملك عبدالله الثاني إلى تمتين الجبهة الداخلية ونبذ التهجم والتشهير كنداء استباقي عميق يعيد ضبط الإيقاع الوطني على منطق المصلحة العليا، بعد أن تمادت منصات التعبير في التراشق.
تحدث جلالة الملك، دون مجاملة أو مسايرة مزاج اللحظة، وضع إصبعه على الجرح الحقيقي في الجسد الوطني: تآكل الثقة، واتساع فجوة الخطاب، وتحول الخلاف إلى خصومة اجتماعية حادة. وهذا ليس ترفًا خطابيًا، بل مؤشر خطير على هشاشة النظام القيمي الذي يفترض أن يضبط حركة الرأي العام ويوجه النقد نحو البناء لا الهدم.
حين يدعو الملك إلى الابتعاد عن الاتهامات والشتائم والتشهير، فهو لا يمارس دور الواعظ، بل يتحدث كقائد يدير الدولة بمنطق السيادة الواعية لمصادر الخطر. نحن نعيش في زمن باتت فيه الحرب على الدولة تمر عبر «اللايقين العام»، والتشكيك المنهجي، وتضخيم الأخطاء على حساب سردية الإنجاز. وأخطر ما في هذه المرحلة أن السلاح لم يعد جنديًا على الحدود، بل منشورًا على منصة، أو مقطعًا مجتزأ، أو رواية مضللة تزعزع اليقين.
من هنا، لم تعد وحدة الصف الأردني مجرد دعوة إنسانية للتسامح، بل قضية سيادية ترتبط بمناعة القرار الوطني وقدرته على الصمود تحت الضغط. ففي عالم ما بعد الحقيقة، حيث تُعاد صياغة الأوطان عبر أدوات ناعمة وخبيثة، تصبح «الثقة المجتمعية» خط الدفاع الأول. وإذا انهار هذا الخط، يتحول الجسم السياسي إلى كيان قابل للانقسام الذاتي، حتى مع وجود مؤسسات صلبة.
نحن بحاجة ماسة اليوم إلى إعادة تعريف الوطنية خارج قاموس التهليل والمزاودة. فليس كل من صرخ غاضبًا يحب الوطن، ولا كل من التزم الصمت قد خانه. الوطنية الحقيقية تُقاس بميزان الحكمة، والانحياز للحق دون إضعاف الجبهة الداخلية، والقدرة على النقد دون إسقاط.
على الجانب الاقتصادي، لا يمكن لأي برنامج إصلاحي أن يُكتب له النجاح في بيئة منقسمة. المستثمر لا يبحث فقط عن فرص سوقية، بل عن بيئة مستقرة تُدار بثقة بين مكوناتها. وإن لم تُترجم وحدة الصف إلى بيئة نفسية واجتماعية تحفز التماسك، فإن كل جهد تنموي سيتحول إلى تنازع على المكتسبات بدلاً من أن يكون منصة للتوزيع العادل للفرص.
نحتاج إلى لغة جديدة تقرأ التحدي الاقتصادي من زاوية العقد الاجتماعي، لا منطق الإعفاءات والمطالبات فقط. الأردن اليوم يمتلك موقعًا استراتيجيًا واعدًا، لكنه لا يستطيع استثماره إذا بقي النزيف الداخلي يستهلك الطاقة والوقت، ويشعل الحرائق بدل إطفائها. فالأمن الاقتصادي لا يتحقق بالأرقام فقط، بل بثقة الناس في مؤسساتهم، وشعورهم بأن الإصلاح لا يستثنيهم، ولا يُدار خلف أبواب مغلقة.
وأخطر ما نواجهه اليوم هو انعدام الأفق لدى الشباب، الذين يشعرون بتضييق المساحات، وأن أصواتهم لا تجد منفذا مؤسسيا محترما. إذا لم تتحول دعوة الملك إلى ممارسة حكومية واضحة المعالم تُعيد إدماج الشباب في القرار، وتوفر لهم أدوات المشاركة الحقيقية، فإن ما نكسبه في الخطاب سنخسره في الشارع، وما نزرعه من وعي سنخسره في لحظة غضب غير مؤطرة.
ولا يمكن فصل هذا عن دور الإعلام الرقمي، الذي إذا تُرك بلا مسؤولية، قد يتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات بدل أن يكون منبرا لطرح القضايا الوطنية. المعركة اليوم ليست فقط على الأرض، بل على العقول، حيث يصنع «اللايك» والتفاعل اتجاهات رأي تتفوق أحيانًا على الحقائق الصلبة.
الوحدة التي نريدها ليست «توحيدًا قسريًا للصوت»، بل تناغمًا بين المختلفين على أرضية وطنية تُعلي القيم وتحترم التنوع. هذا يتطلب شجاعة في التفسير لا المراوغة، وإرادة سياسية لا تكتفي بالردع، بل تطلق يد التمكين، وتعترف بالخلل، وتُعيد بناء الثقة بجرأة ووضوح.
وحدة الصف ليست عنوانا لحملة إعلامية، ولا ملاذا عند اشتداد الخطر فقط، بل هي نظرية أمن وطني شاملة تقوم على الوعي الجمعي، وتُدار بشفافية، وتُصان بالحوار المسؤول. دعوة جلالة الملك ليست مجرد نداء، بل خريطة طريق لترسيخ مناعة الدولة الأردنية من الداخل، في زمن باتت فيه الدول تُخترق من بواباتها المجتمعية لا من حدودها العسكرية.
خيارنا اليوم واضح: إما أن نُعيد تعريف الاختلاف كقيمة وطنية تُغني القرار، أو نواصل الانزلاق في دروب التشكيك والاتهام، لنجد أنفسنا عاجزين عن حماية ما تبقى من الثقة، وهي أغلى ما نملك.
فالوطن لا يُحمى بالصراخ، بل بوحدة تُصاغ من الثقة، وتُدار بالحكمة، وتُصان بالعدل.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
04-08-2025 08:55 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |