27-07-2025 09:54 AM
بقلم : وزير المالية الاسبق حمد الكساسبة
في ظل الضغوط المتزايدة على المالية العامة للدول النامية، برزت مبادلة الديون بمشاريع تنموية كأداة فعالة لتحقيق الاستقرار المالي وتحويل أعباء الدين إلى فرص استثمارية. وتقوم هذه الآلية على استبدال جزء من الدين الخارجي بمشاريع إنمائية ذات أولوية، مما يمنح الدول المدينة مرونة أكبر في استخدام مواردها ويوجّهها نحو قطاعات إنتاجية. ويكتسب هذا الطرح أهمية خاصة في الحالة الأردنية نظرًا لحجم المديونية الخارجية والحاجة لتعظيم كفاءة الإنفاق العام.
تمثل هذه الآلية فرصة فريدة لتحويل الالتزامات المالية المتمثلة بأقساط الدين والفوائد التي تُدفع سنويًا للدائنين، إلى مشاريع إنتاجية داخل الاقتصاد الوطني. فبدلًا من خروج هذه الأموال إلى الخارج، يمكن استثمارها في مشاريع ذات أولوية تنموية، ما يضمن عوائد اقتصادية واجتماعية مستدامة، ويُحوّل خدمة الدين إلى محرك للنمو. وبهذا المعنى، فإن مبادلة الدين ليست فقط وسيلة لتخفيف المديونية، بل أداة لتوسيع القاعدة الإنتاجية وتعزيز الاستقلال المالي.
يمتلك الأردن مقومات حقيقية للنجاح في مبادلة الديون، أبرزها استقراره السياسي، وسمعته المالية الجيدة، وخبرته في إدارة المنح الدولية، إضافة إلى توفر رؤية تنموية واضحة وعلاقات وثيقة مع الدول الدائنة.
تقدَّر ديون الأردن الثنائية الرسمية تجاه أربع دول صناعية كبرى – ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، واليابان – بنحو 3.5 مليار دولار، أي ما يعادل 8% تقريبًا من إجمالي الدين الخارجي. ويمثل هذا الرقم فرصة واقعية لإطلاق برنامج مبادلة منظم، خاصةً في ضوء العلاقات المتينة التي تربط الأردن بهذه الدول واستعداد بعضها السابق لدعم المملكة عبر منح أو مشاريع مشتركة.
يمكن أن يتضمن البرنامج مبادلة تدريجية لنحو 15% إلى 20% من هذه الديون سنويًا على مدى خمس سنوات، مقابل تنفيذ مشاريع تنموية متفق عليها. وبتنفيذ المبادلة بالكامل، ينخفض رصيد الدين الثنائي بحوالي 3.5 مليار دولار، ما ينعكس إيجابًا على مؤشرات الدين والناتج المحلي، ويخفف العبء عن الموازنة العامة، ويُحسّن التصنيف الائتماني للمملكة على المدى المتوسط.
من شأن هذه المبادلات أن تمول مشاريع ضرورية في البنية التحتية، والتعليم، والطاقة المتجددة، والمياه، وهي قطاعات تعاني من فجوات تمويلية واسعة. كما ستُسهم في تحفيز النمو الاقتصادي، وتوليد فرص العمل، ورفع جودة الخدمات، إضافة إلى تشجيع الشراكة مع القطاع الخاص وتعزيز بيئة الاستثمار، خاصةً إذا ما تم تنفيذها ضمن آلية شفافة تحظى بثقة المواطنين والممولين.
ولا تقتصر الفكرة على هذه الدول الأربع، بل يمكن توسيعها لتشمل دولاً دائنة أخرى، وفق معايير وآليات واضحة. ويُفترض أن يدعم نجاح التجربة مصداقية الأردن، ويؤسس لتبني نموذج دائم في إدارة الدين العام. وتختلف المبادلة عن إعادة الجدولة التقليدية من حيث الجوهر، إذ أنها لا تؤجل المشكلة بل تعيد توجيهها نحو التنمية. كما أنها لا تتعارض مع اتفاقية الخروج من ترتيبات إعادة الجدولة مع نادي باريس عام 2002، بل تمثل تطورًا طبيعيًا في إدارة العلاقة مع الدائنين وتحويل الالتزامات إلى فرص تنموية.
لقد أثبت الأردن قدرته على الالتزام في تجارب سابقة، أبرزها الجامعة الألمانية الأردنية التي تأسست بمنحة ألمانية، والمنحة الخليجية التي استُخدمت بفعالية في مشاريع بنية تحتية. إلا أن المبادلة المقترحة اليوم تتجاوز هذه الأمثلة من حيث الحجم والتأثير، ما يستدعي تبني إطار مؤسسي يضمن الاستدامة والمتابعة والتقييم.
وتعزز التجارب الدولية هذا التوجه، إذ قامت الإكوادور بمبادلة ديون لحماية التنوع البيئي، فيما استخدمت بليز وباربادوس هذه الأداة لتمويل مشروعات بحرية. وخفضت سيشل ديونها مقابل الحفاظ على النظم البيئية، بينما استفادت سريلانكا من مبادلة ممولة من اليابان لتحسين خدمات المياه والتعليم. وتدل هذه النماذج على أن المبادلة الناجحة لا توفر فقط حلاً مالياً، بل تدعم التنمية المستدامة وتعزز الثقة الدولية في الاقتصاد المحلي.
ومن هذا المنطلق، فإن مبادلة الديون بمشاريع تنموية ليست مجرد خيار مالي، بل هي مسار استراتيجي مزدوج الأثر، يجمع بين ضبط المؤشرات المالية وتعزيز الإنتاجية الوطنية. وإذا ما أُحسن تصميم هذه الاتفاقيات وتنفيذها بشفافية وكفاءة، فإنها ستعزز قدرة الأردن على مواجهة التحديات، وتُكسبه ثقة الممولين والمستثمرين، وتضعه على مسار تنموي أكثر استقرارًا واستقلالية. كما تمثل هذه المبادلة آلية ذكية ومبتكرة لتمويل أولويات الرؤية الاقتصادية الأردنية دون اللجوء إلى مزيد من الاقتراض، ما يجعلها أداة استراتيجية لمواءمة إدارة الدين العام مع الأهداف التنموية بعيدة المدى
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
27-07-2025 09:54 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |