17-07-2025 05:02 PM
بقلم : د. خالد السليمي
عقدٌ من التحديات والتقشف
منذ عام 2015، دخل الأردن في سلسلة من برامج الإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي، هدفت ظاهرياً إلى تخفيض عجز الموازنة وتعزيز الاستقرار المالي، خلال هذه الفترة، تم رفع الدعم التدريجي عن المشتقات النفطية، وتقليص الدعم على الخبز، وزيادة ضريبة المبيعات، مما أثّر بشكل مباشر على القوة الشرائية للمواطن، وبحسب بيانات البنك الدولي، ارتفع معدل الفقر في الأردن من نحو 14.4% عام 2010 إلى أكثر من 24% في 2022، بينما تجاوزت نسبة البطالة 22% عام 2023، وهناك تقديرات غير رسمية تشير إلى أن النسبة قد تكون قريبة من 35% عام 2024، وقد بلغ الدين العام نحو 114% من الناتج المحلي الإجمالي، كل هذه الأرقام تُظهر بوضوح أن المعادلة الاقتصادية الحالية باتت لا تطاق للمواطن، وتستدعي مراجعة جذرية.
بين توصيات صندوق النقد والواقع المعيشي
ترتكز توصيات صندوق النقد في جوهرها على خفض العجز ورفع الإيرادات وزيادة كفاءة الإنفاق، وهي أهداف محقة نظرياً، لكن التطبيق في الأردن غالباً ما تم بمعزل عن العدالة الاجتماعية وخصوصية الواقع المحلي، فرفع الدعم شمل السلع الأساسية، بينما لم يُقابل بإجراءات ملموسة لتحسين دخل المواطن أو محاربة الاحتكار أو تحفيز الإنتاج الوطني، وهكذا، أصبحت وصفات الصندوق عبئاً مضاعفاً على الشارع الأردني، وُصفت من قبل بعض الاقتصاديين بأنها "جراحة مالية بلا تخدير اجتماعي"، فالتقشف عندما لا يكون عادلاً، ينتج أزمة ثقة ويضعف التماسك الوطني.
تساؤلات الشارع وحقائق الأرقام
يسأل المواطن الأردني البسيط اليوم: إلى أين تذهب كل هذه القروض؟ ولماذا لا نشعر بأي تحسن؟ الإجابة تكمن في بنية الإنفاق العام، حيث تبتلع خدمة الدين وفاتورة الرواتب الجزء الأكبر، بينما تتراجع مخصصات التعليم والصحة والبنية التحتية، كما أن غياب الشفافية في بعض المشاريع الكبرى، ووجود شبهات فساد أو سوء إدارة، عزز شعور الشارع بــ (اللاجدوى) من هذه الخطط، لا يمكن الاستمرار في الحديث عن إصلاح اقتصادي دون أن يشعر المواطن بتحسن في حياته اليومية، فالمعيار الحقيقي لنجاح أي برنامج هو أثره المباشر على جودة الحياة وليس فقط رضا المؤسسات الدولية.
بين ثقة الخارج واحتقان الداخل
رغم الإشادات الدولية المتكررة بحُسن التزام الأردن ببرامج الإصلاح، إلا أن الداخل يغلي من الأعباء المتزايدة، فثقة المؤسسات الدولية لم تترجم إلى رضا شعبي، بل إلى مزيد من التوجس والاحتقان، هذا الانفصام بين الثقة الدولية والاستياء المحلي يجب أن يُقرأ كإنذار مبكر بضرورة إعادة التوازن بين متطلبات السوق الخارجية وحاجات المواطن، لا يمكن لمعادلة اقتصادية أن تستقيم إذا فقد المواطن الثقة في أن الدولة تقف إلى جانبه، المطلوب اليوم هو قيادة توازنات حقيقية بين الإصلاح المالي والاستقرار الاجتماعي، وإعادة تعريف أولويات الدولة بما يخدم الناس لا فقط المعايير الدولية.
الحلول لا تأتي من الخارج فقط
أكبر خطأ في إدارة الاقتصاد الأردني خلال العقد الأخير هو الاعتماد المفرط على المعونات والقروض والشروط الخارجية، دون بناء قاعدة إنتاجية داخلية تخلق فرص العمل وتُغني عن الاقتراض المتكرر، الحلول المستدامة تأتي من الداخل: إصلاح ضريبي عادل يخفف العبء عن الطبقات الوسطى والدنيا، محاربة الفساد بجدية لا شعارات، دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتحفيز الصناعات الوطنية، كذلك، لا بد من إعادة هيكلة التعليم والتدريب المهني بما يتوافق مع سوق العمل الحقيقي، وبناء شراكات بين القطاع العام والخاص تستهدف النمو المحلي وتوليد الوظائف.
إعادة تعريف دور الدولة الاقتصادي
الدولة ليست مجرد جابي ضرائب أو مقترض دولي، الدولة الحقيقية هي تلك التي تدير الموارد بعدالة، وتوفر الحماية الاجتماعية، وتحفز الابتكار والإنتاج، يجب أن يتحول دور الدولة من الدعم العشوائي إلى الرعاية الذكية، ومن البيروقراطية المثقلة إلى الحوكمة الرشيقة، كما ينبغي إنهاء التناقضات داخل الجهاز الحكومي، حيث تصدر قرارات تتناقض في أهدافها، أو تُنفذ دون تنسيق بين الجهات، المطلوب هو جهاز حكومي حديث، شفاف، يلتزم بخطط واضحة قابلة للقياس والمساءلة، ويضع مصلحة المواطن والاقتصاد في قلب كل سياسة عامة.
من وصفات التقشف إلى استراتيجيات التعافي
المرحلة القادمة تتطلب الانتقال من سياسات التقشف إلى سياسات تعافٍ حقيقي، التعافي لا يعني الإنفاق العشوائي، بل الاستثمار الذكي في البنى التحتية الإنتاجية، والتعليم النوعي، والقطاعات الواعدة كالسياحة، والزراعة الحديثة، والتكنولوجيا، كما يجب مراجعة أولويات الإنفاق الرأسمالي، وتوجيهه إلى المناطق المهمشة، وتحفيز اللامركزية التنموية، التعافي لا يحدث بالأوامر، بل بالإرادة السياسية، والتخطيط طويل الأمد، والشراكة المجتمعية، فالدولة التي تفهم أن الاقتصاد ليس مجرد أرقام، بل حياة الناس، هي الدولة التي تصمد وتتقدم.
نحو خارطة حلول أردنية متوازنة
لكي تُحسم المعادلة الصعبة بين صندوق النقد الدولي وهموم المواطن، لا بد من هندسة اقتصادية أردنية متكاملة تنبع من الداخل وتعتمد الواقعية والعدالة، الحلول تبدأ بإصلاح المنظومة الضريبية بحيث تصبح تصاعدية وعادلة، وتوسيع القاعدة الإنتاجية بدل الاعتماد على الضرائب فقط، كما يجب وضع حد للهدر العام من خلال موازنات مرشدة ومراقبة دقيقة للمشتريات الحكومية، ويُعد تفعيل مبدأ الشراكة بين القطاع العام والخاص في البنية التحتية، والطاقة المتجددة، والمشاريع الريادية، أداة فعالة للنهوض التدريجي، كل ذلك يحتاج إلى توافق وطني وجرأة سياسية في اتخاذ القرار بعيداً عن الاعتبارات الشعبوية أو الإملاءات الخارجية.
القيادة الهاشمية... عقل الدولة وحكمة التوازن
في خضم كل هذه التحديات، تبرز القيادة الهاشمية كمرجعية وطنية عقلانية تمتلك الرؤية والشرعية لإعادة ضبط بوصلة الاقتصاد، فدائما ما يشدد جلالة الملك عبدالله الثاني في خطاباته على أن الإنسان الأردني هو أغلى ما نملك، وأن الإصلاح لا يكون على حساب كرامة الناس، المطلوب الآن ترجمة هذه الرؤية إلى واقع ملموس، عبر حكومة قادرة على تحويل التوجيهات الملكية إلى سياسات عادلة وفاعلة، ومع التفاف الشعب حول قيادته، فإن الأردن قادر على الخروج من عنق الزجاجة، متى ما اجتمعت الإرادة، والخطة، والصدق في النوايا.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
17-07-2025 05:02 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |