04-06-2025 11:24 AM
بقلم : وزير المالية الاسبق حمد الكساسبة
اتبعت الحكومة الأردنية الحالية نهجًا فعّالًا في التواصل مع المواطنين، يتمثل في النزول إلى الميدان والاستماع مباشرة إلى احتياجاتهم وتحدياتهم. ويعكس هذا النهج التزامًا واضحًا بتنفيذ كتاب التكليف السامي، ويؤكد أهمية الحضور الميداني في ردم الفجوة بين الحكومة والمواطنين.
في محافظات مثل الطفيلة، وجرش، وعجلون، والكرك، والمفرق، ومعان، وغيرها، أصبح أثر هذه الزيارات الميدانية ملموسًا. فالمواطنون لا يطلبون الكثير—مجرد بنية تحتية لائقة، وخدمات أساسية، وشعور بأنهم ليسوا مهمشين. وقد أكدت هذه الزيارات ما كان معروفًا سلفًا: أن الفجوات التنموية المزمنة تتطلب استجابة تتجاوز مجرد الإصغاء.
وتُقدم التجارب الدولية نماذج ملهمة. ففي تونس، دعمت الدولة المشاريع الصغيرة ومكّنت الأسر اقتصاديًا. وفي المغرب، فُعّلت شراكات مجتمعية لصياغة حلول تنبع من احتياجات فعلية. أما في مصر، فتم توظيف الذكاء الاصطناعي لتحسين استهداف المستحقين للدعم، مما عزز الكفاءة وقلل من الهدر.
أما رواندا، فقد طورت نظام "إيميهيغو" للمساءلة المحلية، فيما أطلقت إندونيسيا منصة "LAPOR!" التي تمكّن المواطنين من تقديم شكاواهم وملاحظاتهم مباشرة عبر الهواتف المحمولة—وهو ما ساهم في تحسين سرعة الاستجابة لاحتياجاتهم. وتُظهر هذه النماذج كيف يمكن للتكنولوجيا والمشاركة المجتمعية أن تُحدث فرقًا حقيقيًا إذا اقترنت بإرادة سياسية.
أما في الأردن، فالإمكانات متوفرة، لكننا بحاجة إلى ربط نتائج الجولات الميدانية بقاعدة بيانات مركزية تُسهم في توجيه السياسات العامة. كما نحتاج إلى تفعيل الأدوات الذكية، وبناء شراكات محلية قوية، وتطوير آليات تُمكن المواطنين من إيصال صوتهم.
لكن التحديات لا تزال قائمة. فالبنية التحتية الرقمية في الأردن غير متكاملة، وهناك فجوات واضحة بين العاصمة والمناطق الطرفية. كما أن منصات واعدة مثل "سند" لم تحقق بعد أثرها الكامل. وما يزال هناك نقص في الكفاءات الرقمية، وضعف في استخدام التكنولوجيا الحديثة على المستوى المحلي.
ولذلك، من الضروري الاستثمار في بنية رقمية موحدة، وتدريب الكوادر المحلية، وتوسيع خدمات الاتصال، خاصة في المناطق الريفية. فالتكنولوجيا لم تعد رفاهية، بل أداة أساسية لتعزيز الشفافية والكفاءة والمشاركة المجتمعية.
كثيرًا ما تكشف الجولات الميدانية عن احتياجات ملحّة لم تكن مدرجة في الخطط أو الموازنات، كشق طريق أو بناء مدرسة أو تجهيز مركز صحي. ومع أن الاستجابة لتلك الاحتياجات أمر مهم، إلا أنه لا يجوز تنفيذها دون وجود مخصصات مرصودة في الموازنة. لذا من الضروري أن تتضمّن الموازنات العامة المستقبلية بنودًا احتياطية لتلبية الاحتياجات التنموية التي قد تظهر أثناء الجولات الميدانية، بما يتماشى مع التشريعات المالية. ويمكن الاستفادة من نتائج هذه الجولات أيضًا في ترتيب أولويات الإنفاق العام داخل الموازنات الحكومية للمحافظات، لتكون أكثر قربًا من الواقع المحلي.
اللافت أن بعض الجولات الميدانية في السنوات الأخيرة أسهمت في تحريك مشاريع تنموية كانت متوقفة، مثل إعادة تفعيل مشروع إسكان في قرية جنوبية أو تمويل عاجل لصيانة طريق في بلدة شمالية. ورغم محدودية هذه الأمثلة، إلا أنها تُظهر ما يمكن تحقيقه عندما تقترن الجولات بخطط تنفيذية مرنة. ومن المفيد أيضًا التفكير في إنشاء وحدة تنسيقية دائمة داخل الحكومة تُعنى بمتابعة نتائج الجولات الميدانية، وتحويل الملاحظات والتوصيات إلى خطط تنمية محلية، بالتعاون مع الوزارات ذات العلاقة والبلديات.
وفي نهاية المطاف، تكمن القيمة الحقيقية للجولات الميدانية في انسجامها مع مسار التنمية المحلية. يجب أن تتجاوز كونها رمزية أو إعلامية، وأن تتحول إلى خطط عملية تشاركية تشمل البلديات والقطاع الخاص. كما أن نشر نتائج هذه الزيارات بلغة بسيطة يسهم في تعزيز الشفافية ويُتيح المتابعة العامة. إشراك البلديات والمجتمع المحلي في التقييم والتنفيذ يعزز الشعور بالملكية المجتمعية ويقلل من مقاومة التغيير.
التنمية لا تنطلق من التقارير وحدها، بل تبدأ حين يقف المسؤول بين الناس، يستمع، ويتخذ القرار، ويتابع التنفيذ. وعندما تكون القرارات مدروسة، والموازنات جاهزة، والتكنولوجيا حاضرة، يصبح الميدان منصة حقيقية للعدالة والنمو.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
04-06-2025 11:24 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |