25-05-2025 09:13 AM
بقلم : الدكتور كايد الركيبات
الحديث عن استقلال المملكة الأردنية الهاشمية مناسبة تتجدد فيها الأسئلة أكثر من الإجابات، خاصة حين يُقارب هذا الحدث من زاوية نقدية تربط بين الوقائع السياسية والوعي الجمعي، بين خطاب التشكيك وخطاب البناء، بين من يرى في الاستقلال وهماً سياسياً مموهاً، ومن يراه لحظة تأسيس حقيقية لمشروع دولة وكرامة وطنية، بين هذين التيارين الفكريين، تشكّلت مسيرة الأردن الحديث، وترنّحت قراءتنا للاستقلال بين نبرة التشاؤم والتفاؤل، بين نقد الواقع واستشراف الأمل.
يُعدّ الأمير عبدالله بن الحسين، لاحقاً الملك عبدالله الأول، العنصر الرئيس الفاعل في مشروع تأسيس الدولة الأردنية، إذ وصل إلى مدينة معان عام 1920، حاملاً مشروعاً وحدوياً عربياً، قبل أن تفرض الظروف الدولية والمحلية عليه الانكفاء إلى شرق الأردن وتأسيس كيان سياسي مستقل، وقد استطاع بذكاء سياسي أن يحصل على اعتراف بريطاني بالإمارة عام 1921، مع الحفاظ على علاقات تفاوضية متوازنة مع سلطات الانتداب.
كانت البادرة الأولى لاستقلال إمارة شرق الأردن، في يوم عيد الفطر الذي وافق يوم الجمعة بتاريخ 25 أيار/ مايو 1923، بعد الاتفاق بين الأمير عبدالله، والمندوب السامي البريطاني في القدس هربرت صمويل، الذي كُلف من قبل ملك بريطانيا بالتشاور مع الأمير حول أسلوب الإعلان عن الاستقلال، حيث جاء نص الاعتراف كما يلي "تعترف حكومة جلالة الملك بوجود حكومة مستقلة في شرق الأردن برئاسة صاحب السمو الأمير عبدالله بن الحسين، شريطة أن توافق عصبة الأمم على ذلك، وان تكون حكومة شرق الأردن دستورية تمكن حكومة جلالة الملك من القيام بتعهداتها الدولية فيما يتعلق بتلك البلاد وذلك بواسطة اتفاق يعقد بين الحكومتين".
خلال عقدين من ذلك الاعتراف استمرت الهيمنة البريطانية على القرار الإداري والسياسي والعسكري الأردني، حتى توقيع معاهدة التحالف الأردنية البريطانية، في22 آذار/ مارس 1946، والتي اعترفت بموجبها بريطانيا باستقلال شرق الأردن باسم المملكة الأردنية الهاشمية، وقد اجتمع المجلس التشريعي الأردني في 25 أيار/ مايو 1946، وقرر بالإجماع إعلان البلاد الأردنية دولة مستقلة استقلالاً تاماً وذات حكومة ملكية وراثية نيابية، وإعلان البيعة للملك عبدالله بن الحسين ملكاً دستورياً على رأس الدولة.
كان من الطبيعي أن تسود نبرة الحذر والارتياب من استقلال جاء في سياق توازنات استعمارية لا تخرج عن إرادة الانتداب البريطاني، فالمعاهدة التي وُقعت عام 1946 بين الأردن وبريطانيا، والتي تم بموجبها إعلان المملكة الأردنية الهاشمية كدولة مستقلة ذات نظام ملكي نيابي، لم تكن وليدة انتصار حاسم على المستعمر، بقدر ما جاءت نتيجة لضرورات انسحاب منظم من المشرق العربي، بعد أن ضمنت بريطانيا مصالحها الاستراتيجية، وعلى رأسها تسهيل قيام الكيان الصهيوني في فلسطين.
وقد بدت ملامح هذا "الاستقلال المشروط" في عدد من الوقائع؛ كاستمرار السيطرة البريطانية على قيادة الجيش الأردني، وتوقيع معاهدات أمنية أبقت بريطانيا صاحبة اليد العليا في رسم سياسات المملكة الخارجية والدفاعية، كما شكّل الطابع الاستبدالي لبريطانيا – باستبدال السيطرة المباشرة بنفوذ غير مباشر – دافعاً قوياً لظهور قراءة تشاؤمية تذهب إلى أن الاستقلال لم يكن أكثر من انتقال إداري مخطط، لا يغيّر من جوهر التبعية شيئاً، خاصة وأن الخطاب السياسي البريطاني آنذاك كان مشغولاً بمستقبل فلسطين أكثر من انشغاله بحقيقة استقلال الأردن.
غير أن هذه النظرة – مهما كانت مبررة في لحظتها التاريخية – تتغافل عن البعد التراكمي لمفهوم الاستقلال، وعن السياق الزمني الذي يمكن أن يحوّل لحظة الانفكاك الرمزي إلى مسار نضالي طويل نحو السيادة الفعلية، فالاستقلال، كما تشير الأدبيات السياسية المعاصرة، لا يُقاس فقط بإعلان فك الارتباط مع القوى الخارجية، بل بقدرة الدولة على صناعة قرارها، وإدارة مصالحها، وتحصين مجتمعها، وبناء مؤسساتها الوطنية.
من هذا المنظور، بدأت ملامح التحوّل في الوعي الأردني من خطاب التشكيك إلى خطاب البناء، ومن منطق التبعية إلى منطق الاستقلال التدريجي، فقد تمكن الأردن، بقيادته الهاشمية، من تعزيز الشرعية السياسية والدستورية، وتحقيق استقرار داخلي وسط إقليم دائم الاشتعال، ومن التدرّج في استرداد قراره السيادي، كما حدث في "تعريب قيادة الجيش" عام 1956، حين أُعفي غلوب باشا من منصبه، في خطوة بدت حينها شجاعة ومستقلة، جسّدت بداية الانتقال من الشكل إلى الجوهر.
خلال العقود اللاحقة، استطاع الأردن أن يبني مؤسسات تعليمية وصحية، وبنية تحتية متماسكة، وأن يعزز من مكانته الإقليمية والدولية بوصفه طرفاً فاعلاً في كثير من الملفات الإقليمية، خاصة في ظل ما يمتلكه من توازنات دبلوماسية وسياسات وسطية جعلته مقبولاً لدى مختلف الأطراف على الرغم من المديونية المرتفعة، والاعتماد الكبير على المساعدات الخارجية.
الأهم من ذلك أن مفهوم الاستقلال لم يعد يختزل في يوم الاحتفال، بل بدأ يأخذ شكلاً ناضجاً في وعي الأجيال الجديدة، التي تربط الاستقلال بقدرة الدولة على تمكين الإنسان الأردني، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، وصيانة الكرامة الوطنية. هذا الوعي الجديد لا ينفي الصعوبات، لكنه لا يختبئ خلفها، بل يراها تحديات قابلة للحل، ضمن مشروع نهضوي لا ينفصل عن فكرة الاستقلال، بل ينبثق منها.
لقد تبيّن أن التشاؤم الذي ساد بداية مرحلة ما بعد الاستقلال كان انعكاساً لخيبة أمل عميقة مما آلت إليه القضية الفلسطينية، وما رافقها من شعور بأن الأردن كان جزءاً من لعبة كبرى لم يكن له فيها كامل الإرادة، غير أن هذا الشعور انقلب تدريجياً إلى إدراك سياسي أكثر نضجاً، مفاده أن الدول – لا سيما الصغيرة منها – لا تختار دائماً ظروف نشأتها، لكنها تملك دائماً القدرة على صناعة شروط بقائها وتقدّمها.
من هنا، فإن التحوّل في الخطاب السياسي الأردني من جلد الذات إلى استثمار التراكم، ومن الرؤية النقدية المعتمة إلى الوعي التحليلي الواقعي، شكّل انعطافة فكرية عميقة في قراءة الاستقلال، لم يعد الاستقلال مجرد وثيقة، ولا مجرد احتفال، بل أضحى نقطة بداية يُبنى عليها وعي سياسي جديد، يجمع بين نقد الماضي وبناء المستقبل، بين الاعتراف بقيود الجغرافيا وقسوة الواقع، والإيمان العميق بإمكانيات الإنسان الأردني، وقدرته على تجاوز الصعاب.
وهكذا، تحوّلت ذكرى الاستقلال من محطة للتشكيك إلى منصة للأمل، ومن لحظة لقياس الفقد إلى مساحة للتخطيط والبناء، ومع كل عام يمر، تترسخ في الوجدان الوطني قناعة راسخة: أن الاستقلال ليس مجرد إنجاز تحقق في الماضي، بل مشروع متجدد يستدعي العمل اليومي، والوعي العميق، والإيمان الدائم بأن الأردن، رغم محدودية موارده، قادر على أن يكون وطناً مستقلاً، قوياً، وعادلاً.
kayedrkibat@gmail.com
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
25-05-2025 09:13 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |