19-05-2025 09:51 AM
سرايا - في العام 2009 أصدر الدكتور ناصر شبانة كتابا بعنوان الرؤى المكبلة، أي المقيدة، وهو عنوان يذكرنا بكتاب الدكتور شكري عياد (الرؤيا المقيدة) الذي يتناول فيه مشكلات عدة منها التفسير الحضاري للأدب. غير أن ناصرا- وهو شاعر قبل أن يكون ناقدًا- أراد في هذا الكتاب القول إن الشاعر، أو الشعراء الذين يرتهنون شعريا للمناسبات وللمواقف التي تساندها مواقع سياسية في هذه السلطة، أو تلك، إنما يحكمون على رؤاهم الشعرية بعدم التحرر، والانفلات من القيود، فهم في هذه الحال لا يرون الأشياء رؤية جيدة؛ لأن رؤاهم في الأساس مقيدة، مكبلة، لا طليقة، ولا حرة.
وآلى المؤلف في» الرؤى المكبلة» على نفسه إلا الترفع عما يسميه نصا تقليديا أو اتباعيا فهو نصير النص الحداثي. ولهذا غمط عبد المنعم الرفاعي(1917- 1985)- وهو شاعرٌ معروفٌ له ديوانٌ ضخمٌ بعنوان «المسافر» - غمطه حقه على الرغم من أن شعره حظي باهتمام عدد من الدارسين، فوصفَ شعره بالاعتماد على المناسبات، وبأن قيمته الأدبية، والفنية، تقوم أساسًا على موقعه السياسي الذي يدفع ببعض الدارسين لتقريظ شعره من هذا الباب، لا من باب النقد الموضوعي، النزيه، المتحرّر من الميل، البعيد عن الهوى.
وفي كتابه الجديد « رفيف الأقحوانة « يذكّرُنا الناقد بقيس بن الملوح، وما أصابه من جنون عندما أضحت ليلى زوجةً حصانًا رَزانًا على ذمّة رجل آخر، فقال يخاطبه عن بُعد، معبرًا عن ذلك الشغف المسكون بالغَيْرة:
بربّكَ هل ضمَمْتَ إليك ليلى
قبيلَ الصبح أم قبَّلْتَ فــــاها
وهلْ رفَّتْ عليكَ قرونُ ليلى
رفيفَ الأُقحْــــوانةِ في صِباها
فمن عجز البيت الثاني اقتبس الناقد هذا العنوان، لكنه – من جهة أخرى- يفصح عن انّ المؤلف لن يستخدم في كتابه النقدي الذي وَقَفَهُ على نقد الشعر دون النثر، ضاربًا الصفح عن مذهب أبي هلال العسكري في الصناعتين، فلديه صناعة واحدةٌ هي الشعر، لا غير، بل سيستخدم بدلا منها لغة الشعر. وهو يقول في مقدمته للكتاب: إنه يتابع الشعر في الأردن منذ خمسين عامًا، وأن في كتابه هذا تقسيما استخرجه من هذه المتابعة. ففي الشعر الأردني من التيارات أربعة لا تزيدُ، ولا تنقُص. الأول منها تيارٌ هو الذي يشبه شعره شعر صاحبنا عبد المنعم الرفاعي(1917- 1985). والثاني الذي يشبه شعره شعر عبد الرحيم عمر(1929- 1993) في ديوانه أغنيات للصمت 1962 فهو على عهدة المؤلف رائد هذا الشعر أردنيا، فيما يرى غيره عرارًا(1899- 1949) رائدا أقدم وأسبق من عبد الرحيم، ويرى آخرون فدوى طوقان(1917- 2003) رائدة سبقت للتفعيلة في ديوانيها وجدتها 1957 وأعطنا حبا 1961. والتيار الثالث يصفه بتيار قصيدة النثر، مع ما في هذه التسمية الشائعة من تناقض؛ إذ تعرَّفُ القصيدة بإضافتها للنثر، ومن طبيعة المضاف أن يكون شيئًا مما يختصّ به المضاف إليه، فقولنا «ساعة فرح «يعني أنها تختلف عن غيرها بالفرح وخلوها من الحزن والأسى أو الشجن، وعليه فإن القول قصيدة نثر يعني أنها قصيدة تختلف عن غيرها بأنها نثر، وليستْ شعرًا . وهذا شيءٌ لا يهتم به الناقد الفاضل، ولا يزعجه. فهو يتجاوز ذلك لتيار رابع لم يجد له اسْمًا يميزه، فهو اتجاهٌ يقف شعراؤه على مسافة واحدة من التيارات الثلاثة المذكورة. فشعراءُ هذا النفر لا فرق لديهم إن كانت القصيدة نثرًا، أم موزونة مقفّاةً، أم من شعر التفعيلة الذي سمَّته نازك الملائكة(1923- 2007) حرًا، وخالفها في ذلك كثيرون.. وقد يجمع الشاعر منهم بين هذه التيارات في القصيدة الواحدة.
وأيا ما يكن الأمر، فإن ما استوقفني في مقدمة الدكتور ناصر تأكيده أن الساحة ملأى بالأدعياء الذين يزعمون أنهم شعراء، وأنهم يجدون ترحيبًا لدى محرّري الملاحق الثقافية، وأرضا خصبة، حرة، وميدانا طليقا لينشروا فيهما ما يُسيء، لا للشعر وحده، ولكنهم يسيئون للغة العربية أيضا؛ لأصواتها وحروفها ونحوها وصرفها وأدبها وثقافتها، ومن المؤسف أن الكتاب الموسوم برفيف الأقحوانة لم يقلْ لنا إلا القليل عن هؤلاء المتطفلين من باب التأدب، والنبل، الذي يتصف به المؤلف. فيقتصر على تناول دواوين، أو تجارب لعدد من الشعراء، اختارهم اختيارًا عشوائيا. ففي الكتاب عدَدٌ من المقالات، والبحوث، التي لم يوضح لنا فيها على أي أساس أو معيار جرى اختيارها. فهو يجمع بين شاعر كبير، ومخضرم، كمحمد القيسي، مع آخرين لا يسوغ وضعهم معه في قرَن. لا من حيث المنزلة الأدبية، والشعرية، ولا من حيث الجيل، إذا سلمنا بمعيار المجايَلَة الذي لا نرى فيه المعيار الدقيق. فبعض الذين جمعه معهم ما زالوا على الرغم من الكثير الذي كتبوه، ونشروه، والجوائز التي حصدوها، يُعدّون في نظر البصير بالشعر مبتدئين، وناشئين.
وهو إلى ذلك يجمع بين شاعر كيوسف عبد العزيز، وبعض من لم يُسمع بهم أو بشعرهم. ولسنا نتفق مع الناقد الفاضل في أن» كله عند العرب صابون «، أو أن «البيض لكي ينفق في سوق البقالة علينا أن نضعه في سلة واحدة». فالديوان الذي شُغل به، وبنقده طويلا، واختار له موضوع انثيال اللغة الشعرية ذو عنوان يثير مشكلة لغوية. فالنص (هذا أنا المجنون قال) عنوان غير سليم، فالفعل (قال) يحتل ها هنا موقع الاسم، لا الفعل. فالمعتاد أن يقال هذا أنا المجنون فلان. جوابا عن سؤال افتراضي: من أنت؟ أو من الطارق؟ وإذا زعم أن الفعل (قال) أسند للمجنون في (هذا أنا المجنون) وجب أن يضيف لسداد الثغرة، واستقامة النظم: الاسم الموصول الذي، فيكون العنوان في هذه الحال: هذا أنا المجنون الذي قال. وقد مر الناقد الفاضل عن هذا العنوان، ومنعه تأدبه، وحياؤه، من الإشارة لهذا.
وثمة عنوان آخر، والمؤلف مهووس بالعناوين: موتى بلا سقوف. وهو عنوان يحاكي فيه الشاعر عنوان مسرحية لسارتر (موتى بلا قبور) فالسقوفُ من الأشياء التي يحتاج إليها الأحياء والموتى، أما ما يحتاج إليه الموتى فهو القبور. وكان على المؤلف الفاضل أن يتساءل، كونه معنيا بالعناوين، لماذا استبدل الشاعر السقوف بالقبور؟
واللافت أن المؤلف يبدي في كتابه هذا عنايته القصوى بالعتبات.
ففي ص 31 يتوقف طويلا إزاء العنوان: هذا أنا المجنون. وفي ص 36 يذكر لنا عتبة أخرى من كتاب المراثي.ثم يقفوها بذكر ثلاث عتبات أخرى ص38 ويذكر ص 65 أن مفاتيح القراءة لأحد الدواوين تتلخص في سؤال العتبات. وفي ص 92 نكتشف أن للعنوان – وهو لدى بعضهم عتبة- عند المؤلف إيقاع. وفي ص 104 يتحدث عن إقفال العتبة مؤكدا أن للعتبة المقفلة رأيا في النص، وبعد ذلك مباشرة يتحدث طويلا عن العتبات فمنها: العنوان، ثم العتبة الاستهلالية، ثم قفل التعاريف، ثم قفل اللغة المشفرة، وقفل الثنائيات. وهذا كله عتباتٌ في عتبات. مع أن الأعراف السائدة في حياتنا اليومية، وفي ثقافتنا هي أنّ العتبة الجزء غير المهم في المنزل، والجميع يدوسون العتبة بلا رحمة. ويقال في الأمثال: (لنا العتبة ولكم صدر البيت) للدلالة على الترحيب الدافئ بالأضياف. وينظر للمنتظرين على الاعتاب بصفتهم أذلاءَ، مهانين، غير مُرَحَّبٍ بهم:
قومٌ إذا حضر الملوك َ وفودُهمْ
نُتِفَتْ شواربُهم عل الأعتابِ
وفي روايةٍ على الأبوابِ. بمعنى أنهم يُتركون للانتظار طويلا، ولا يرحب بهم كغيرهم من الكرام والسادة. ورب سائل يسأل: لمَ تستهين، أو تستخف بمن يعتنى بالعتبات فتعد كثرة حديثه عنها من باب الفضول، والتزيُّد غير المقبول؟
جوابا عن هذا التساؤل المهم، نقول: إن في كل نص شعري، أو نثري، قضيَّةَ ما هي التي تحفز المبدع للتعبير، والدارس ينبغي له أن يهتم بها، ويعطيها الأولوية على غيرها، ثم لا بد من الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة التي تعبر عن هذه القضية سواء أكانت هذه القضية تعجبُنا، وتروق لنا، أم لا. وشيءٌ آخر هو: علينا ألا نسلم بصحة الرأي الذي يقول إن العنوان ينمُّ على فحوى القصيدة، أو القصة، أو الرواية. والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر أو تحصى. فالشعر العربي قديما لم تكن فيه عنوانات ولا عتبات. فلو كان العنوان شرطا لازما لفَهْم النص لوجب أن يُقال: إن الشعر العربي القديم كله، لا جُله، غيرمفهوم، لأنه بلا عنوانات، وبلا عتبات. علاوة على هذا فإن بعض القصص والروايات والقصائد قد يكون عنوانها اسْما لا يفضي للقارئ بما يضيءُ آفاق النص. مثلا رواية زينب، أو أنا كارنينا، أو مدام بوفاري، فهي عنوانات لا توحي بمضمون لرواية، أو القصة. وفي الكتاب أشار المؤلف لقصيدة عنوانها المتنبي. وهذا عنوان يصلح ان يكون عنوانا لكتاب علمي، تاريخي، أو سيرة، لا لقصيدة. زيادة على هذا يعمد بعض المؤلفين قصدًا لاختيار عناوين غامضة كالأحاجي، مما يضع القارئ، والدارس الباحث، في دائرة الحيرة. فالشاعر مؤلف هذا الكتاب نشر ديوانا بعنوان « شُقوق التراب» وهو عنوان يشبه اللغز، ولا يتضح مرماه إلا إذا قرئ الديوان. فكيف ندّعى للعنوان، وللعتبات، فضل التيسير، والانتقال السلس من الباب إلى فضاءِ البَهْو.
وقد استنفدت العتباتُ من جهد المؤلف الكثير للأسف، وهي قد لا تستحق مثل هذا العناء، ولا هذا الذي قيل مِرارًا وتِكرارًا. فالزمخشري (538هـ) وهو أحد نحاة العربية، وصاحب كتاب المفصل في النحو، الذي شرحه ابن يعيش في 10 أجزاء، صنف كتابا في اللغة سماه « أساس البلاغة «. ومن يقرأ العنوان يظنه كتابا في المعاني والبيان والبديع. بيد أنه معجم لألفاظ اللغة، وليست له علاقة بهاتيك العلوم التي هي علوم البلاغة لدى السكاكي(626هـ)، والخطيب القزويني(739هـ) صاحب « الإيضاح «. ولكنه اختارَ هذا العنوان من باب أنّ من أراد أن يكون فصيحا بليغا عليه أولا أن يعرف ألفاظ العربية، وما يدل كل لفظ منها على المعنى إن كان على وجه الحقيقة أم المجاز. وكانَ الفرنسي جيرار جانيت Gennette قد صنَّف كتابا موسوما بعنوان العتبات – لاتراس La trace - ترجمه للعربية الصديق الجزائري عبد الحق بلعابد. وقد اطلعتُ على هذا الكتاب منذ زمن، فوجدته كتابا رديئا لكثرة اهتمامه بالقشور على حِسابِ اللّباب. وترجمته للعربية كترجمة كتاب باشلار(1884- 1962) «جماليات المكان» فالترجمتان أفسدتا عقول الكثير من كتابنا، ونقّادنا، وطلابنا، فقد وجدنا بيننا من يتخصص تخصصا دقيقا في دراسة العناوين، وآخرين في دراسة العَتَبات، وقوما آخرين في دراسة المكان، بل عرفنا من كتاب الرواية من يظن أن روايته لكيْ تحظى بالقبول، وتفوز بإحدى الجوائز، عليه أن يطيل في وصف الأمكنة، ويقحمها في مروياته بمناسبة أو بلا مناسبة، كي يأتي ناقدٌ ساذج فيطيل في الثناء على الرواية لوفرة ما فيها من الأوصاف المفتعلة غير الضرورية التي يضفيها على المكان ظانا أنه أحد الفطاحل(ولا مؤاخدة). ووجدنا فيما بيننا من يعدون الأطاريح الجامعية، التي يفترض فيها أن تكون مشروعًا معرفيًا لا ضربا من مَضْغ الكلام و(طق الحنك) عن المكان، أو عن العتبات، مما يحوجنا للتذكير بما عناه المتنبي في عجز البيت:
أغاية الدين أنْ تحْفوا شواربَكُْمْ
يا أمةً ضحِكَت من جهْلِها الأمَمُ
ومن باب التأدّب الجمّ، وهو فضيلة يحسد عليها المؤلف، يعتذر اعتذارًا شديدًا لأن بعض الشعراء، أو من يعدون في الشعراء، على رأي القائل (وفؤادي من الملوك وإنْ كان لساني يُعدُّ في الشعراء) لم يقف إزاء دواوينهم، ولم يحتف بتجاربهم، في هذا الكتاب، معترفا باحتمال أن يكون ذلك تقصيرا منه، واعدا بالكتابة عنهم في كتابه القادم. ومع هذا الاعتذار اللطيف، والاعتراف الظريف، أظن ظنا غير آثم أن المؤلف لن ينجو من انتقادهم القاسي، وغضبهم العارم، على وَفْق مضمون الآية 58 من سورة التوبة (ومنهم من يلمِزُكَ بالصدقات، فإذا أعطوا منها رَضوْا، وإذا لم يُعْطوْا إذا هم يَسْخطون) ولله در المؤلف ما أكثر أدبه في هذا الكتاب، وكرمه على الشعراء الأصحاب منهم والأحباب، ذلك الكرم الذي يتجلى في تشجيعه المفرط، فها هو يقول عن بعضهم: إنه يقف في الصف الأول من الشعراء المعاصرين،وتجربته الشعرية لا مثيل لها(ص20) ويقول عن آخر نجح ففي تأثيث أركان القصيدة بجماليات البيان (ص75) ويقول عن ثالث في شعره فلسفة تجلو شخصية الشاعر طفلا ثم يثقل كاهل القارئ بالفوضى النفسية والإرباك اللاشعوري (ص66). وفي موضع آخر يعجب من قدرة الشاعر وتفوقه، فهو في موقع عاشقٌ وفي موقع آخر مقاوم (ص62) وهذا تنقلٌ ينم عنده على براعةٍ، وتفوق، مع أن العشق لا يمنع من أن يكون العاشق مقاومًا أو مقاتلا.
صفوة القول أن الكتاب « رفيف الأقحوانة» كتابٌ يفصح عن خطوة جديدة يخطوها الصديق الشاعر ناصر شبانة على طريق النقد الأدبي الجاد، والمتابع، لما ينشرُ، ويذاع من شعر، بصرف النظر عن الاتجاه الذي يمثله، سواء أكان من شعر الشطرين، أم مما يسمى قصيدة النثر، أم الشعر الذي يُعرف بالشعر الحرّ، فالغاية من هذا النقد هي التفريق بين الغثّ والسمين، وتمييز الركيك منه عن القوي المتين.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
19-05-2025 09:51 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |