27-10-2025 10:31 PM
سرايا - يشغل الشاعر الأردني حبيب الزيودي (1963-2012) موقعا فريدا في الشعر الأردني الحديث، ويظلّ علامة فارقة بصفته الشاعر الذي استطاع أن يصوغ هوية شعرية بلغة فصيحة منغرسة في وجدان الناس، إلى جانب أشعاره الشعبية باللهجة المحكية، والتي لم تكن أقل شعرية وتألقا من قصائده الفصيحة.
انتسب حبيب الزيودي شعريا إلى شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار) بوصفه أب الشعر الأردني، لكن صوت الزيودي لم يكن امتدادا ميكانيكيا لعرار أو لخلفائه في القصيدة الوطنية، بل كان مؤسسا لمرحلة جديدة يتصالح فيها الشعر مع النشيد، والذاكرة مع الحاضر، والبدوي مع المثقف المدني.
يُعدّ مشروع الزيودي الشعري في جوهره رحلة بحث عن الذات الأردنية، لا بوصفها حدودا سياسية، ولكن هوية ثقافية ولغوية ونفسية تتكون من تفاصيل الأرض، وأصوات الرعاة، وطقوس القرى، وتحولات الدولة الحديثة، وفق ما نشر على موقع "الجزيرة نت".
وتتوزع هذه الرحلة على خمسة دواوين رئيسية هي: "الشيخ يحلم بالمطر" (1986)، "طواف المغنّي" (1990)، "منازل أهلي" (1997)، "ناي الراعي" (2009)، و"غيم على العالوك" (2012). ومن خلال هذه الأعمال يمكن تتبّع تحوّل الخطاب الشعري عند الزيودي من الإنشاد الجماعي إلى الحنين الفردي، ومن الفخر الجمعي إلى التأمل الوجودي.
"الشيخ يحلم بالمطر".. التأسيس الرمزي للهوية
يبدأ الزيودي رحلته الشعرية بهذا الديوان الذي يرسّخ رموزه الأولى، مثل المطر والشيخ والبادية والكرامة. وتبدو القصيدة هنا كامتداد لقصيدة الفخر العربية، لكنها مروّضة على إيقاع وجدانيّ جديد. "الشيخ" ليس رمز السلطة أو الزعامة فحسب، بل صورة الأب والجدّ، والحكمة والمروءة، في حين أن المطر هو وعد الحياة واستمراريتها.
في ديوانه الأول هذا، يظهر الزيودي كصوت قادم من العمق العشائري، يحمل ملامح البادية الأردنية بصفائها وكرامتها ووجعها. لغته جزلة متينة، تتكئ على البيان العربي الكلاسيكي، لكنها تُطعَّم بملمس حديث من الحس الإنساني والوجدان الشعبي. وفي هذا الديوان كان يسعى إلى جعل اللغة بيتا لأبناء البادية، وإلى ترسيخ صورة الأردني بوصفه امتدادا لتاريخ العرب في الأرض والكرامة.
"طواف المغنّي".. النشيد الجماعي
في ديوانه الثاني "طواف المغني"، يخرج الزيودي من الذات ويتقدم نحو الجماعة، ومن الحلم الفردي إلى الطقس الجمعي. يصبح "المغني" رمزا للشاعر الذي يدور حول معاني الوطن. تتأسس القصيدة هنا على الإنشاد، وتتقاطع لغتها مع روح الأغنية الوطنية. وقد تحولت بعدها كثير من نصوصه إلى أغنيات غناها مطربون شعبيون، مما جعل صوته الشعري جزءا من الذاكرة السمعية الأردنية.
لكن ما يميّز هذه المرحلة أنه لا يسقط في المباشرة؛ فهو يكتب الوطن من الداخل لا من المنصّة، يراه في القرى، في الوجوه، في السحنات، وفي الخبز والملح. ومن ثمّ تتكون معادلة شعرية بين اللغة العالية والحياة اليومية.
ونلحظ أن الخطاب في هذا الديوان وطني جماعي، يعيد بناء صورة الأردني كحارس للكرامة. وتزداد في هذه المرحلة ملامح الإنشاد الوطني الذي جعله لاحقا شاعرا رسميا، خصوصا عبر الأغاني الوطنية، فصارت قصيدته تقف على الحدود بين الشعر المكتوب والمنشود. كما نلاحظ أيضًا حضورا أوسع للمدن والجبال والقرى، وصورا للعلم والجيش والملك، لكن دون الخطاب التمجيدي الجاف، بل بلغة متوقدة فيها صدق العاطفة، والتدفق الشعري الذي ميز تجربته.
"منازل أهلي".. الحنين ووعي الذات
هذا الديوان هو قلب تجربة الزيودي، بل ذروتها الإنسانية. يتحوّل فيه الوطن من فكرة إلى بيت وذاكرة. تتراجع فيه الشعارات لتظهر القصيدة الوجدانية، المفعمة بمشاهد الريف والبيت القديم والوالدين والمضافة. واللغة هنا أكثر صفاء ودفئا، وأقل خطابة وأكثر انغماسا في اليومي. وتتحول القصيدة من النداء الجمعي إلى البوح الفردي، ومن الفخر إلى الحنين. والعنوان ذاته "منازل أهلي" يختزل اتجاهه الجديد: العودة إلى البيت الأول، إلى المكان بوصفه ذاكرة لا تُستعاد إلا بالكلمات.
يكتسب الخطاب الشعري لديه بعدًا خاصا؛ فالشاعر لا يحنّ إلى الطفولة وحدها، بل إلى معنى البراءة المفقودة في زمن التحوّل الاجتماعي والسياسي. إنه يرثي القيم لا الأشخاص، ويستحضر المكان لا ليمجده بل ليحزن عليه. هنا تتضح أخلاق الذاكرة التي تميّز شعر الزيودي عن غيره من شعراء الوطنية الخطابية.
"ناي الراعي".. تأمل الطبيعة والوجود
ينفتح هذا الديوان على لغة أكثر هدوءا وتأملا. يتحول الناي هنا إلى صوت كوني، يختزن نغمة البدايات. نجد الزيودي في هذه المجموعة شاعر الطبيعة والإنسان، وهو يستعيد روح الرعاة والبراري في زمن الإسمنت. ويتراجع الخطاب السياسي والوطني إلى الخلفية، لتظهر الذات الفلسفية التي تسائل الحياة والمصير والذاكرة. ويكتب الشاعر كمن يُخاطب العالم من عزلة صافية.
"غيم على العالوك".. وصيّة الشاعر ورؤية الوداع
"غيم على العالوك" هو آخر دواوينه وأقربها إلى الروح. عنوانه وحده يختصر المسار كله، حيث الغيم رمز الرحمة والوداع والمطر، والعالوك قريته التي منها بدأ وإليها يعود. في هذا الديوان يكتب الزيودي كمن يتهيأ للمغادرة:
العالوك ليست قرية فحسب، بل رمز الأصل والعودة. الغيم هنا استعارة مزدوجة للمطر وللموت معًا، للحياة التي تهطل ثم تتبدّد.
في هذا الديوان يتوحّد الزيودي مع المكان، فلا يعود يميّز بين الجسد والتراب، بين القصيدة والحياة. ويتحوّل الخطاب الشعري إلى تجربة صوفية فيها التسليم والسكينة، بعد رحلةٍ طويلة من الحنين والنشيد. لقد غادر الزيودي الدنيا وفي قلبه يقين أن الشعر يمكن أن يكون سيرة بلد في إنسان.
يستند الشاعر الزيودي في بناء قصيدته إلى منظومة لغوية وجمالية تقوم على ثلاث ركائز أساسية متكاملة، وهي: الجزالة التراثية، والإيقاع الصافي، والصورة الواقعية. وتشكل هذه الركائز معا جسرا بين الفصحى الكلاسيكية والوجدان الشعبي، مما يُعيد الاعتبار للقصيدة بوصفها خطابًا وطنيا عميقا ومنفتحا على تجربة الإنسان.
تُعدّ الجزالة التراثية الركيزة الأولى في لغة الزيودي، حيث تعتمد على مفردات مأخوذة من المعجم العربي القديم. ومع ذلك، لا يقدم الشاعر هذه المفردات في سياق تقليدي جامد، بل يُخضعها لتوظيف حديث ومبتكر. هذا التوظيف يمنح اللغة طاقة جديدة ويجعلها قابلة للغناء، ليحقق بذلك توازنًا فريدا بين عراقة اللفظ وحداثة الأداء.
إن الزيودي لا يكتب بلغة النخبة المعزولة التي قد لا تصل لعامة الناس، بل يختار لغة تقف ببراعة على تخوم الفصحى والتراث والبيئة المحلية. هذا الموقع الوسطي يسمح لشعره بأن يكون مفهومًا ومؤثرا لدى شريحة واسعة من القراء، محافظًا على متانة البنية اللغوية وفي الوقت ذاته قريبًا من النبض الشعبي.
أسّس الشاعر الزيودي نمطا فريدا ومتميزا من الخطاب الشعري العربي المعاصر، يمكن أن نسميه اسم "الخطاب الوطني الإنساني". ويتجاوز هذا الخطاب المفهوم التقليدي للسلطة أو الكيان السياسي، ليؤسس رؤية جديدة ترى الوطن بصفته جغرافيا وجدانية عميقة. إنها مساحة تتجسد فيها المشاعر والتاريخ المشترك، مما يجعل العلاقة بين الإنسان وأرضه علاقة روحية متجذرة لا علاقة سياسية جامدة.
وتتجلى الهوية الأردنية في شعره عبر شبكة متكاملة من العناصر التي لا تُستخدم مجرد زينة، بل كأدوات لبناء المعنى. يمكن تصنيف هذه العناصر إلى ثلاث فئات رئيسية، فمن الطبيعة يستحضر الشاعر مفردات البادية والوادي والجبل والمطر، وهي معالم تشكل الروح الجغرافية للبلاد. ومن القيم يرفع راية الكرم والنخوة والصبر والوفاء كأخلاقيات تمثل جوهر الإنسان العربي الأصيل. أما الرموز، فتضم الشيخ والراعي والقهوة والنخلة والغيم، وهي أيقونات شعبية تحمل دلالات ثقافية وتاريخية غنية.
ولم يكتفِ حبيب الزيودي في وطنياته بالحديث المباشر عن الأرض والملك والبادية، بل لجأ إلى بناء رموز بشرية تستبطن فكرة البطولة والنقاء. هذه الرموز شخصيات من لحم ودم، وأصبحت في شعره صورا شعرية مجسّدة للوجدان الجمعي، تمثّل الإنسان الأردني في قيمه وأخلاقه.
وتتقاطع تجربة الزيودي الشعرية مع تجارب عدد من الشعراء العرب البارزين، مما يدل على عمق وعالمية خطابه الوطني الإنساني، فهو يلتقي مع عرار في جانب الفخر والبوح الصادق. حيث يتميز كلا الشاعرين بجرأة التعبير عن الذات والوطن بصدق لا يخالطه تكلّف، مع اعتزاز واضح بالهوية والتراث.
كما يتقاطع مع حيدر محمود في الانتماء والوجد الوطني الصافي، حيث يشترك الشاعران في تكريس شعرهما للتعبير عن حب الوطن الأردن بكل تفاصيله الجغرافية والبشرية، مع إحساس عالٍ بالمسؤولية تجاه قضايا الأمة.
كما نلمس تقاطعات مع شعراء عرب مثل بدر شاكر السياب وإبراهيم طوقان وحتى سميح القاسم، حيث يتقاطع الزيودي معهم في توظيف الوطن بوصفه قيمة إنسانية لا سياسية فقط. وهؤلاء جميعا يرفعون قضية الوطن من مجرد حدود جغرافية إلى فضاء إنساني شامل، حيث الكرامة والعدالة والوجود هي الأركان الأساسية للمشروع الشعري.
يذكر أن الزيودي من مواليد عام 1963، ويصادف اليوم الذكرى الثالثة عشرة لوفاته. وقد حصل على بكالوريوس في اللغة العربية من الجامعة الأردنية عام 1987، والتحق عام 2003 بالجامعة الهاشمية في الزرقاء للحصول على شهادة الماجستير، عمل في القسم الثقافي في الإذاعة الأردنية في الفترة بين 1987 و1989، ثم في وزارة الثقافة حتى عام 1990، ثم في التلفزيون الأردني، وجريدة الرأي، وقد تولى إدارة بيت الشعر الأردني، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب في الشعر عام 1992.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
27-10-2025 10:31 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||