بقلم :
الغضب يُعمي الإنسان عن الحقيقة، ويُضخم له الأشياء فلا يراها على حقيقتها، وصغار النفوس تستجيب نفوسهم لنوازع الشر بداخلهم، فتطيش عقولهم، ويختل توازنهم، فتُرتكب الحماقات، وتخرج الأمور من بين أيديهم. اما المؤمنين فقد استجابوا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم بترك الغضب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: "لا تَغْضَبْ"، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: "لا تَغْضَبْ . فهم لا يستجيبون لغضب أهوج، ولا انفعال طائش، وبهذا التحكم في النفس والضبط للأعصاب عند الثورة والانفعال تتم السيطرة على الموقف، ودرء الفتن، ولهذا امتدح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الخلق في الصحابي الجليل أشج بن قيس؛ فعن بن عباس رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأَشَجِّ بن عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاة . ضعاف الايمان هم أسرع الناس غضبًا، وليتهم حين يغضبون يكون الغضب لله، لكن غضبهم في غالبه يكون لأنفسهم ولعصبيتهم؛ فهذا يغضب لأن أحدًا سبَّه أو شتمه، وذاك يغضب لأنه اعتُديَ على قبيلته أو عشيرته، وهذا يثأر لأجل كرامته وهيبته. اما المؤمنون فلا يغضبون إلا لله؛ فعندما تُنتهك حرمة من حرمات الله، أو يُعتدَى على شعيرة من شعائره، أو يُعطَّل حكمٌ من إحكامه، فحينئذ تكون الهَبَّةُ، وتكون الغيرة كما كان القدوة صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ حَتَّى يُنْتَهَكَ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ للهِ" ( المؤمنون يصبرون على الأذى، ويتحملون المشاقّ؛ لعل الله يهدي من أساء إليهم، ويفتح على مَن بغى عليهم، فيعودون إلى رشدهم ويكونون رفقاء الطريق وأصدقاء المستقبل. لا يدَّعون على من ظلمهم أو يتمنون سوء الخاتمة لهم، بل يتعالون على كل ذلك فيدعون لهم بالهداية وصلاح الحال، ويلتمسون لهم العذر، فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ . وهم أقرب الناس إلى قلوب ذوي الرحم، وهم أرفق الناس بهم، وأحلم الناس عليهم، حتى وإن آذوهم أو ظلموهم، وبحلمهم هذا يرفعهم الله ويُعلي قدرهم، وينصرهم ويقف معهم أمام من يعاديهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ.. إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ: فَقَالَ: "لَئِنْ كُqaتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ . الحلم وكظم الغيظ خُلُقان يؤهلان صاحبيهما إلى تبوء أعلى المراكز وأفضلها؛ ذلك أن الحليم يستطيع التفكير بطريقة سليمة، ولا يخضع للاستفزاز، ولا يفقد تركيزه بسهولة، وبالتأكيد فإن شخصًا بهذه الإمكانات هو أولى من غيره بتولي المراكز القيادية؛ إذ إنه بحلمه سيستطيع استيعاب السواد الأعظم ممن تولى عليهم، وكانت العرب تقول في أمثالها: "من حلم ساد". ومن هؤلاء الذين تزعموا أقوامهم بسبب حلمهم عرابة بن أوس، والأحنف بن قيس، رُويَّ أن معاوية بن أبي سفيان قال لعرابة بن أوس: بِمَ سدتُ قومك يا عرابة؟ فقال عرابة: "يا أمير المؤمنين.. كنت أحلم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم؛ فمن فعل منهم فِعْلي فهو مثلي، ومن جاوزني فهو أفضل مني، ومن قصر عني فأنا خير منه". والمؤمنون يعتريهم ما يعتري الناس من لحظات الغضب والضيق، ولكنهم يكونون أقدر من غيرهم على التحكم في أنفسهم؛ فلا يبدو على قسمات وجوههم وتعبيرات ألسنتهم إلا ما ينم عن أصالة معدنهم ونبل أخلاقهم؛ فلا تجريح، ولا إهانة، ولا سبَّ ولا شتم. وهم لا يُنفسُّون عن أنفسهم إذا احتدم الأمر إلا بطريقة مهذبة وغير مؤذية؛ فتراهم لا يتلفظون إلا بألفاظ لا يؤاخذون عليها شرعًا، وتساعدهم على امتصاص التوتر المسيطر على الموقف، كأن يرددون مثلاً "سامحك الله "، "غفر الله لك"، "لا حول ولا قوة إلا بالله". المؤمنون لا يستجيبون للطرف الآخر الذي يحاول جرَّهم إلى معارك الغضب غير المحسوبة العواقب، ويحذرون من الانسياق إلى منزلق لا يليق بمستواهم، ولا يُناسب قدرهم؛ ذلك أنهم اتخذوا من صبرهم على الأذى طريقًا لدخول الجنة، كما أنهم يحذرون من تحول نواياهم، أو أن يكون الغضب سببًا في إفساد أعمالهم. روي أن عليًّا بن أبي طالب كان يقاتل عمرو بن عبد ود العامري في أحد المعارك، فلما تمكن منه وارتقاه بصق في وجهه وهو يوشك أن يرديَه قتيلاً، فلم يُعَجِل عليّ بالانقضاض عليه، بل استدار قليلاً، ولما قيل له في ذلك، قال: أردت أن أقتله غضبًا لله لا غضبًا لنفسي؛ ولذا لم يعاجله على الفور، وإنّما تركه برهة ثمّ صرعه. المؤمنون يسعون إلى نيل الجائزة الكبرى التي دلهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الاختيار من أي حور العين شاء؛ لذا فهم يكظمون غيظهم، ويحلمون على من أساء إليهم ابتغاء الرفعة والمكانة العالية عند الله، عنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ . الصالحون يعلمون أن الشيطان يجري مجرى الدم من ابن آدم، ويوقنون أن الشيطان أحرص الناس على إحداث الفتنة بين الناس، وعرفوا أن أعظم لحظات الشيطان سعادةً هي تلك التي يوقع فيها بين متحابين؛ لذا فالصالحون أحرص من غيرهم على إغاظة الشيطان؛ فهم يكظمون غيظهم ويغيظون شياطينهم. عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقومٍ يصطرعون؛ فقال: "ما هذا؟" قالوا: فلانٌ ما يُصارع أحدًا إلا صرعه، قال: "أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟! رجلٌ كلمه رجلٌ فكظم غيظه فغلبه، وغلبَ شيطانه، وغلب شيطان صاحِبِهِ". وجاء غلام لأبي ذر رضي الله عنه وقد كسر رجل شاةٍ له فقال له: من كسر رِجل هذه؟ قال: أنا فعلتُهُ عمدًا لأغيظك فتضربني فتأثم، فقال: لأغيظنَّ من حرَّضك على غيظي، فأعتقه.