حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,19 أبريل, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 880

مسرحيةُ الزَّمن الجميل

مسرحيةُ الزَّمن الجميل

مسرحيةُ الزَّمن الجميل

21-11-2020 11:58 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : أ. عمار البوايزة


يُتعبنا كثيراً التّغني بأناشيد الزَّمن الجميل ، وتُزمجرُ فينا قهقهة الأيام المرتدة عبر تلعثم الذّكريات بسنابلِ القمح الممتدّة في أرواحنا الحائرة ، وتَنحتنا تلك الصخور التي تُطوّقُ أُفقنا ، وتسلبُ بعضَ حُزننا الجاثم على صدورنا ، لتصرفهُ عبر تنهُّداتِ الطين المَحشوّ بين حجارة فكرنا المرصوفة على جدران الزمان ؛ يغلبنا الوقتُ ونحنُ نُقلقلُ ظلام مسالكنا لنُخرِجَ من لدُنّا أيقونة فرحٍ ، ونَبتَزُّ ليالينا الواقفة على مسافة قبرٍ منّا ، لتُخرجَ لنا من الأجداث ما يؤنسُ بؤسنا ، ويمسحُ نوائبنا المتفشية بين حُجراتِ قلوبنا الواهية اللاهية ، حينما تعثَّرت قوافلنا ، ونحنُ نُسافرُ بنا إلى عالمٍ آخر غير عالمنا.
الزَّمنُ الجميلُ ليسَ أولئك المتحللون في جوفِ الأرض ، ولا تلك الفؤوس التي تُشرقُ الشَّمسُ على أنغامها ، ولا كؤوس الفخّار التي زخرفتها قسوة الحياة ، وجلّتها مياهُ الينابيع المتدفِّقةِ من قلب الأرض ؛ ولم يكن الزمن الجميل أبداً حلقة النار التي يلتفُّ حولها الصغير والكبير في بيت العائلة ، فتشدُّهم بحبالِ لهبها بميثاق حبٍّ ورباط مودة ، لا ينالُ منهم بردُ شتاء ، ولا يستنزفُهم حرُّ صيف ؛ وما كان الزمنُ الجميلُ ذلك الشَّغب العفوي ، الذي ترسمه ملامحُ البساتين والطُّرقات ، وهي تُلبي أصداءهم ونداءاتهم وغناءهم وحُداءهم ، فتراها تفتقدُ إطلالتهم وحنوِّ نظراتهم ، فتحزنُ لمصابهم وتفرحُ لفرحهم ؛ وليس هو رائحةُ خبز الطّابون ، التي تستنشقها حيطان القُرى ومداخلها في صورةٍ تعكسُ لذّة انتزاع مذاق العيش من قلبِ الرَّماد.
الزَّمنُ الجميلُ مسرحيّةٌ شيِّقة ، نستأنسُ بأبطالها وشخوصها وجمهورها ، ويأخذنا الشَّجن والحنين وربّما البكاء ، حينما نستعرضُ أحداثها على أثير الذّكريات ، ويأخذنا الطوفان إلى جزيرة الذّاتِ ، وقد لبسناً زمناً آخرَ ، وتَجرَّدنا من الأصول والقيم الحميدة ، ووقفنا على الهوامش ؛ تلك مسرحية لم يعشْ أبطالها إلا حياة العوز والفاقة في المأكل والملبس ، فترى أحدهم يلتفُّ بمعطفٍ بالٍ يقيه برد الشتاء القارص ، ثم يلتحفه في الليل ليلخلدَ فيه الى فقره وبؤسه وشقائه ، أو ينتعلُ حذاءً من جلد بعير أو من مخلَّفات جنود الحروب العالمية ، يشتريه من "البالات" ؛ لم يكن أولئك يعرفون البذخ والثراء والتّمرُّد على الرزق ، وحتى الجيل الذي خرج من أصلابهم بعد سنين ، لا زالَ على ذاتِ الحال بالعموم ، وإنْ اغتر بمظاهر الحياة ومكياجها ، واستحوذت عليه اكسسواراتها الفاتنة ؛ الجميلُ في تلك الحقب أنّهم كانوا سعداء رغم كل شيء ، ونحنُ نبحثُ عن السعادة في كل شيء ولم نجدها بعد.
أولئك قومٌ جابوا الأرض حُفاة عُراة ، فما تركوا وادٍ ولا شِعبٍ إلا ولأقدامهم فيه نقشٌ من كفاح ، "زادهم في الصُـرّة وماؤهم في الجـرَّة" ، ولدوا على فطرة الخير والسّخاء والنخوة والخلق الكريم ، وامتشقوا معاول البركة والرضا ؛ ونفثوا ريحهم الطيب في الأنحاء والحواري والبيوت ، وما انغمسوا في صغائرِ الدًّنيا ، ولا سعوا لبُهرجها ؛ لقد كانوا على السواء في المجمل العام ، مصدر الرزق واحد والعمل واحد ، فلا طبقية مقيتة تفرقهم ، ولا ثراء فاحش يجعلُ أحدهم مملوكاً لغيره ، وإنْ حدث ذلك ، فقد كان على نطاقٍ ضيّق جداً ؛ ولكن ذلك لم يُجرّدهم من عاداتهم النبيلة ، التي جعلتهم كالبنيان المرصوص ، يشدُّ بعضه بعضاً.
لقد كان أولئك الآباء والأجداد رغم عناد الحياة وانكساراتها وتقلّبِ أحوالها مدرسةً في إدارة الاقتصاد ، ذلك الاقتصاد البسيط القائم على ما تزرعه أيديهم ، وما يوفّرهُ عنائهم وعرقهم وإصرارهم العجيب على مجابهة الحياة لأجل الحياة ، يبتسمون لزخّاتِ المطرِ ، ولا يقنطونَ من سعة رحمة ربّهم ، لا مسَّتهم سنينَ المحل ؛ فتجدهم ، لا طالهم ضنكٌ أو استبد بهم جور الليالي ، يجترّون مؤنهم مما كانوا قد خزّنوه في صوامعهم "الكواره" وغيرها من خيراتٍ وفيرة ، ولا يتشاكون أو يتباكون ، ولا يستجدون استجداء الأعرابي لمعن بن زائدة: "فجُدْ لي يا ابن ناقصةٍ بمالٍ" ؛ فسبحان الذي ألهمهم كيف يضربوا أروع الأمثلة ، وقبل عقودٍ طويلةٍ من الزَّمان ، ويثبتوا بأنَّ التخزين من أهم عوامل قوة الاقتصاد.
اليومُ ، ونحنُ قد ودَّعنا ذلك الزمانُ بكلِّ إرثه وموروثه الجميل ، نركنُ الى محاجرنا ونوباتِ حُزننا ، لنبعثَ فيها موشّحات الحنين ، وروايات الأماكن ووقفات البشر ؛ وقد نسينا أنَّ الزَّمنَ ليس هو علّتنا ولا مصيبتنا ، فالزمنُ لا يتغير لكنه يتقدَّم ، ويفرضُ سُبلاً ووسائلَ ومعطياتٍ جديدة ، ويضعنا أمام أنماط أكثر حداثة في المأكل والملبس والمسكن ؛ نسينا أنَّ الأرضَ هي ذاتها الأرض ، والسَّماءُ لا زالت هي السَّماء ، وأن خالقَ الكون منزَّه عما عليه البشر ، تتغير كُل الأشياء في الوجود ولا يتغير ، وتبقى رحمته للبشرية جمعاء ، وسعت وتسع كل شيء ؛ نسينا أنَّ نلوِّن قلوبنا ونفوسنا وأرواحنا بذلك الإرث العظيم من المعاني العظيمة والأخلاق العالية ، التي تجذَّرت في الأقدمين ، فرُحنا نسير وراء لوحة الحياة البرّاقة ، وتلونَّا بألوانها وصورها وحُللها الزاهية ، حتى خدشنا تلك العادات الاصيلة ، وتفرَّقنا شيعاً ، وضاقت علينا الأرضُ بما رَحُبت.
ما نسميه الزمن الجميل ، ليس إلا أنشودةٌ نتغنى بها ، لا شاكنا الحنين أو قرص وجنتينا الدمع ؛ فلو أمعنا التفكير قليلاً في ذاتنا لوجدنا أنَّنا نحنُ من لوّثَ الزَّمن ، وأنَّ قلوبنا وأنفسنا انشقَّت ، لا بل تنصّلت من كل ما هو جميل ، وغزاها عامل الشر والبغضاء ، واجتاحتها أمواج الحسد والضغينة ، حتى أصبح الواحد منّا يحسدُ نفسه على نفسه ؛ فكيف بعد كلِّ هذا نقف لنعلّق الاتهامات على زماننا الذي نعيش ، مُردّدين "لكل زمانٌ دولة ورجال" ، ونلقي باللوم على حقولنا ، التي غابت عنها سواعد الخير ، وأصابها القحط واليباس ؛ فالبركة في العيش لم تأتِ من الزمن الجميل ، بل جاءت من الخيرية التي استوطنت قلوب من عاشوا ذلك الزمن وعاصروه ، فإذا انتفى الخير في شيء ، وتغيّر المقصد عن بوصلة الحق زالت البركة.
أ‌. عمار البوايزة


لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا






طباعة
  • المشاهدات: 880
برأيك.. هل طهران قادرة على احتواء رد فعل "تل أبيب" بقصف بنيتها التحتية الاستراتيجية حال توجيه إيران ضربتها المرتقبة؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم