حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
السبت ,20 سبتمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 21271

محمود درويش .. عام على الرحيل

محمود درويش .. عام على الرحيل

محمود درويش  ..  عام على الرحيل

16-08-2009 04:00 PM

تعديل حجم الخط:

بقلم :

     لم اعشق الشعر الحديث منذ ان تعرفت عليه في بداية السبعينات ، من خلال اشعار الراحل نزار قباني ، كانت تعجبني بعض الفقرات بصورها التشبيهية ، لكنني بيني وبين نفسي لا اؤمن انه شعر ، فقد ملكت المعلقات
واشعار الجاهلية الالباب من خلال مناهج اللغة العربية في المدرسة ، وتفاعلنا عاطفيا معها ، نعيشها من خلال تحليلنا الطفولي لبيئة الشاعر ومعاناته ، احزانه وافراحه ، تعقله وجنونه ، فالشعر العامودي  هو الشعر الحقيقي ، ففيه اكثر ما كنت اعشقه ، القافية والوزن مترافقة مع البلاغة والصور التشبيهية ، اضافة الى سيرة حياة هولاء الشعراء ، باسقاطها على تلك المرحلة التاريخية .

      كنت دائما اتأمل موقفا من حياة الشاعر امرؤ القيس ، كيف يستطيع انسان ان يتحكم بمشاعره ويمتلك مثل ارادته ، يأتيه نبأ مقتل ابيه وهو في الحانة يشرب الخمر ، فيقول قولته المشهورة " اليوم خمر وغد امر ، لا صحوة اليوم ولا سكر غدا "  ويصدق قوله ويذهب في اليوم التالي طلبا للثأر لأبيه ، ومن من الشعراء يصل به العشق ، وهو في قلب المعركة ، ليتخيل حبيبته والرماح تتساقط حوله "ولقد ذكرتك والرماح نواهل ، مني وبيض الهند تقطر من دمي ، فوددت تقبيل السيوف لانها ، لمعت كبارق ثغرك المتبسم" ،  هكذا عشقنا الشعر والشعراء ، وسيرة حياتهم ، بما فيها من الارادة والعزم ، والتعبير الجريء عن العواطف والتحريض ومختلف المشاعر الانسانية ، بينما كنت اجد الشعر الحديث ، مجرد نثر يستطيع اي انسان ان يجيد سرده ، ان امتلك موهبة الخيال والقدرة على التعبير اللغوي       .

      كنت اتابع نشاطات الشاعرين الراحلين ، محمود درويش ونزار قباني ،
لكنها  لم تكن متابعة الاعجاب بهما ، خاصة في مجال الشعر الوطني والقومي ، فكيف لشاعر يعشق النساء ، ويتطرق في اشعاره الى تفاصيل اجسادهن ، ان يكون حافزا للمرء على النضال الحقيقي ، وما يتطلبه ذلك من الاستعداد للتضحية بالروح ، او على الاقل خشونة العيش في الجبهة والخنادق ، او طريدا يعيش حياة بدائية قاسية ، وكيف لشاعر مثل محمود درويش ، يلقي اشعارا في صالات بيروت ، التي بدا لي انه من اكبر عشاقها ، وسط مشاعر الاعجاب من ارق الحسنوات ، وبحر من نظراتهن الحالمة ، كيف يكون هذا الشاعر الوسيم الناعم ، دافعا لخشونة النضال وقساوة تضحيات المناضلين ، ان هذه المرحلة من صراعنا مع العدو ، تتطلب حياة غير طبيعية ، وشعرا غير طبيعي ، وكلمات غير التي تقال ، على نمط شعر امرؤ القيس نفسه "مكر مفر مقبل مدبر، كجلمود صخر حطه السيل من عل"
   او المتنبي " الليل والخيل والبيداء تعرفني ، والسيف والرمح والقرطاس والقلم  ، او عشقا اخر كعشق عنترة العبسي ، الذي ربط بين ثغر حبيبته وبريق الرماح في ارض المعركة .

     مفهومنا للنضال كان يرتبط بالخشونة وتجهم الوجه والعبوس ، فهي الانعكاس الطبيعي لحقيقة المشاعر النضالية ، ولمن يحمل هم الوطن والامة ،  اما الابتسامة ، فلا مكان لها بين المناضلين الاشداء ، الذين يجب ان يكون الواحد منهم كعمود الكهرباء ، صلابة وجمودا في المشاعر . 

     بعد اواسط السبعينات بقليل ، الحٌ عليٌ احد الاصدقاء ، ان احضر معه امسية للشاعر الراحل محمود درويش اقيمت في دمشق ، وكان مقررا لها ان تتم في احدى قاعات كلية الهندسة في جامعة دمشق ، عندما حضرنا للقاعة ، كان حضورا صاعقا لنا ، القاعة مليئة وكذلك الساحة الامامية والشوارع المحيطة ، وكان هناك تأخير وحيرة بسبب ضيق المكان ، وافواج من الفتيات يسحبن من القاعة بعد اغمائهن من شدة الزحام ، الذي اشعر الجميع بالضيق ، واخيرا تقرر نقل الامسية الى مدرج جامعة دمشق ، فبدأ الحفل ليلا ، وقد كان مقررا بعد الظهر ، بعد تأخير ساعات عن موعده ، ولم يكن مدرج الجامعة اقل ازدحاما من مسرح كلية الهندسة ، وكذلك خارج المدرج ، ممن اصروا على الاكتفاء بسماع صوت الشاعر دون رؤيته ، لقد كانت الامسية مهرجانا لفلسطين ، وكان محمود درويش رمزا لفلسطين التي تعيش في قلوب ملايين العرب ، فالحضور لم يكن من عامة الشعب ، بل من مثقفين وطلبة مسيسين ، وعلى الاخص ذوو التوجهات اليسارية ، وكانت قصائد محمود درويش ، وصوته الهادر بالمعاناة والثورة والمقاومة ، يقاطعه هدير من اصوات الحضور المنفعلة وتصفيقهم الحاد وقوفا .

     لقد كان ذاك المهرجان نقطة التحول بالمفاهيم لدي ، دفعني الى متابعة نشاطات ذاك الشاعر الرمز ، والى متابعة سيرة حياته ومعاناته مع الاحتلال ، سجنا واقامة جبرية وتشردا وغربة داخل وخارج وطنه ، وحرمان من رؤية امه ، التي باح بحنينه لخبزها وقهوة الصباح معها في احدى قصائده ، رغم عقلانية طروحاته ، فلم يكن من دعاة القاء الاسرائليين في البحر وتدمير دولة الاحتلال ، بل كان صوتا صارخا في برية ملئ بالوحوش ، داعية عدل وتعايش وسلام ، وهو الذي دفع ثمن عشقه للسلام كثيرا ، بعد تعرضه لسنوات طويلة من التهجم والاتهام ، عقب ما زعم عن رفعه للعلم الاسرائيلي ، في احد المؤتمرات الدولية ، التي اقيمت في براغ ، عاصمة تشيكوسلوفاكيا الموحدة سابقا اواخر الستينات ، بصفته عضوا في الحزب الشيوعي الاسرائيلي ، كما كان صوتا تقدميا ضد كل قوى الظلام ، ترجم شعره الى عدة لغات عالمية ، فكانت كلمته رصاصة ضد الظلم ، اهتز الداخل الاسرائيلي ، حتى وهو طفل استدعاه الحاكم العسكري بعد احدى قصائده ، لم يتخلى عن قوميته رغم عالميته وهو يناجي احمد العربي . 

     النضال متعدد الوجوه ، النضال قاس ومرير بمختلف اشكاله ، لانه ينطلق من احساس صادق بالظلم والمعاناة ورفض لهما والحض على مقاومتهما ، النضال عقيدة وتضحية ، وكما يضحي المناضلون المقاتلون ، كذلك يضحي المناضلون الشعراء والادباء والفنانون ، فكم عانى توفيق زياد ويعاني سميح القاسم وغيرهم ، وسقط الشهداء غسان كنفاني وكمال ناصر وناجي العلي ، كما سقط من اجل القضية نخلة فلسطين ، محمود درويش ، الذي لم يقوى قلبه على مزيد من المعاناة ، رغم ان على هذه الارض ما يستحق الحياة .

مالك نصراوين

m_nasrawin@yahoo.com

16/08/2009

 








طباعة
  • المشاهدات: 21271
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
16-08-2009 04:00 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
ما مدى رضاكم عن أداء وزارة الاتصال الحكومي بقيادة الوزير محمد المومني؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم