30-12-2025 08:38 AM
بقلم : د. حسين سالم السرحان
الكرك عزيزة، ولا يجوز أن تُواجِه سيول الأمطار وحدها،
هذه ليست جملة عاطفية عابرة، بل حقيقة وطنية تستدعي التوقف والتأمل، فالكرك لم تكن يومًا على هامش الجغرافيا ولا على أطراف الذاكرة الوطنية، بل كانت على الدوام في قلب التاريخ الأردني وضميره، مدينةً صلبةً بالإنسان قبل الحجر، وصابرةً على كتف الجنوب رغم قسوة الظروف وتراكم الإهمال.
إنقاذ الكرك ليس خدمة لمحافظة واحدة، ولا مطلبًا جهويًا ضيقًا، بل واجب وطني صريح، واحترام مستحق لتاريخ مدينة وقفت دائمًا في الصف الأول حين نادت الدولة، وقدّمت دون منّ أو حساب.
فالكرك درة المحافظات الأردنية بما تختزنه من عمق تاريخي وإنساني، وبما تحمله من ذاكرة جماعية تشهد على التضحيات والانتماء.
اليوم، تتعرض الكرك لما هو أبعد من مجرد أمطار موسمية. إنها تواجه سيولًا جارفة تجرف التربة، وتُصدّع الطرق، وتُهدد القرى، وتربك حياة الناس، وتكشف بوضوح لا لبس فيه هشاشة البنية التحتية، لا بفعل قسوة الطبيعة وحدها، بل نتيجة عجز مؤسسي مزمن ورداءة في التخطيط والتنفيذ، وتراكم طويل من الحلول المؤقتة التي لم تعالج أصل المشكلة.
نعم، الأمطار نعمة، لكن حين تتحول إلى خطر داهم، وحين تسير السيول بلا قنوات، وتسقط الطرق بلا تصريف، وتُترك الأودية بلا حماية، تتحول النعمة إلى ناقوس إنذار، لا يجوز تجاهله أو التقليل من شأنه. ما يحدث في الكرك ليس استثناءً عابرًا، بل مؤشرًا خطيرًا على خلل بنيوي في إدارة مياه الأمطار والسيول، وعلى غياب رؤية شاملة تتعامل مع الطبيعة بعقل التخطيط لا بعقل رد الفعل.
الكرك اليوم لا تطلب المستحيل، ولا تستجدي امتيازًا، ولا تبحث عن مكاسب إضافية. إنها تطلب حقها الطبيعي في الأمان، وحق أهلها في طرق لا تُجرف مع أول منخفض، وبيوت لا تُحاصرها المياه، وأراضٍ لا تُسلَبها التعرية عامًا بعد عام. تطلب فقط أن يُعامل جنوب الأردن بعدالة التخطيط لا بعدالة الخطاب.
مشاهد الطين في الشوارع، والأسفلت المنهار، والتربة المنجرفة من السفوح، ليست مشاهد طارئة ولا مفاجئة، بل نتيجة مباشرة لتراكم الإهمال وغياب التخطيط طويل الأمد، ولعدم الاستثمار الجاد في بنية تحتية قادرة على الصمود أمام المتغيرات المناخية التي لم تعد استثنائية، بل متكررة ومعلومة.
لا يجوز أن تُترك الكرك وحدها في مواجهة السيول. ولا يجوز أن تبقى الاستجابة موسمية، أو أن تقتصر على حلول إسعافية مؤقتة تُلتقط بها الصور ثم تُطوى الملفات. المطلوب اليوم خطة وطنية عاجلة، شاملة، وشفافة، تُعيد الاعتبار لإدارة مياه الأمطار، وتحمي الطرق الحيوية، وتُثبّت التربة في المناطق الجبلية، وتُصان العبارات والأودية، وتضع صوت الناس في صدارة القرار قبل وقوع الكارثة لا بعدها.
أهل الكرك لم يكونوا يومًا عبئًا على دولتهم، بل كانوا سندًا في الشدائد، وحصنًا في الملمات، وصوتًا للعقل والانتماء حين اشتدّ الضجيج. إن إنقاذ الكرك اليوم هو إنقاذ لجزء أصيل من روح الأردن، ورسالة واضحة بأن الدولة لا تترك مدنها وحدها في مواجهة الخطر، ولا تؤجل حقوق الناس حتى تأتي الكارثة التالية.
الكرك عزيزة، وستبقى كذلك، لكن العزة وحدها لا تكفي أمام السيول. ما يكفي هو القرار، والتخطيط، والعدالة، قبل أن يتحول الإهمال إلى ندم لا ينفع.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
30-12-2025 08:38 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||