27-12-2025 08:19 AM
بقلم : م. صلاح طه عبيدات
في الدول التي تحترم مفهوم الحوكمة الرشيدة، تُبنى الثقة بين المواطن والمؤسسات العامة على أساس واضح: تحديد الأدوار وعدم تضاربها. فكل مؤسسة وُجدت لتؤدي وظيفة محددة، وأي خروج عن هذا الإطار لا يُعد اجتهادًا حسن النية بقدر ما يُعد انزلاقًا خطيرًا قد يمس جوهر العدالة وحماية الصالح العام.
من هذا المنطلق، يثار جدل مشروع حول قيام مؤسسة المواصفات والمقاييس الأردنية بالترويج الإعلامي لمنتجات بعينها، مثل عبوات الغاز المنزلية المركبة (Composite)، عبر وسائل إعلام رسمية كالتلفزيون الأردني، في سلوك يطرح تساؤلات قانونية ومؤسسية عميقة.
بموجب قانونها الناظم، فإن الدور الأصيل لمؤسسة المواصفات والمقاييس هو دور تشريعي–رقابي بامتياز، يتمثل في إعداد وتبني المواصفات القياسية والقواعد الفنية للمنتجات المختلفة، لا سيما تلك المرتبطة بصحة وسلامة المواطن، إضافة إلى الرقابة والتحقق من مدى مطابقة المنتجات المتداولة في السوق لتلك المواصفات. هذا الدور، بطبيعته، يفترض الحياد الكامل، لأن أي ميل أو انحياز—even لو كان بحسن نية—يفقد المؤسسة مكانتها كحَكَم مستقل، ويحوّلها إلى طرف في السوق، وهو ما يتعارض مع فلسفة وجودها القانونية.
عندما تقوم جهة رقابية رسمية بالترويج لمنتج معين عبر الإعلام، فإنها، شاءت أم أبت، تمنح هذا المنتج شهادة ثقة عامة أمام المواطن. فالمتلقي البسيط لا يميّز بين التعريف والترويج، بل يستقبل الرسالة على نحو مباشر مفاده أن هذا المنتج آمن لأنه صادر عن جهة الدولة. وهنا تكمن الخطورة الحقيقية، إذ تتحول المؤسسة، بهذا السلوك، إلى جهة توقع صكًا ضمنيًا بالمطابقة والسلامة، وتتحمل تبعاته الأخلاقية وربما القانونية، حتى وإن لم يكن ذلك منصوصًا عليه صراحة في القانون.
ذاكرة السوق الأردني لا تزال مثقلة بتجارب مؤلمة، وفي مقدمتها كارثة مدافئ الغاز القاتلة، حين تلاقت الثقة العامة مع ضعف الرقابة وخلل المنتجات، فكانت النتيجة أرواحًا أُزهقت، وثقةً تآكلت، ومساءلاتٍ لم تندمل آثارها بعد. من هنا، فإن أي انزلاق نحو الترويج بدل الرقابة الصارمة يعيد فتح الجرح ذاته، ويبعث برسالة مقلقة مفادها أن الجهة المفترض بها أن تكون الحارس الأول قد اقتربت من موقع المسوّق.
حتى في غياب منفعة مباشرة، فإن تضارب الأدوار بحد ذاته يشكل خللًا مؤسسيًا خطيرًا. فكيف يمكن لجهة أن تروّج لمنتج اليوم، ثم تكون هي ذاتها الجهة التي تراقبه أو توقفه أو تسحبه من السوق غدًا؟ إن استقلالية الجهات الرقابية لا تُقاس بالنوايا، بل بالمسافة الواضحة والفاصلة بينها وبين السوق ومصالحه.
المطلوب هنا ليس التشكيك في مؤسسة وطنية عريقة ولا في كوادرها، بل تصويب المسار حفاظًا على دورها وهيبتها. فالمؤسسة مطالبة بالالتزام الصارم بوظيفتها الرقابية والتشريعية، وترك الترويج للقطاع الخاص ضمن أطر قانونية واضحة، وتعزيز خطابها الإعلامي ليكون توعويًا تحذيريًا يركز على المتطلبات الفنية والمخاطر، لا على إبراز منتجات بعينها.
إن مؤسسة المواصفات والمقاييس ليست مجرد جهة فنية، بل خط الدفاع الأول عن صحة وسلامة الإنسان. وأي مساس بحياديتها، مهما كانت مبرراته، يضعف ثقة المواطن ويفتح باب الشك، وهو باب يصعب إغلاقه. ففي زمن تتسارع فيه المخاطر وتتعدد فيه المنتجات، تبقى القاعدة الذهبية واحدة لا تقبل التأويل: الرقابة لا تُسوَّق، والحياد لا يُجزَّأ.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
27-12-2025 08:19 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||