حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
السبت ,27 ديسمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 6185

د. زياد جلال الحنفي يكتب: خلل المفاهيم واختلال موازين التقييم

د. زياد جلال الحنفي يكتب: خلل المفاهيم واختلال موازين التقييم

 د. زياد جلال الحنفي يكتب: خلل المفاهيم واختلال موازين التقييم

27-12-2025 08:15 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د. زياد جلال الحنفي
لم يعد ما يشهده عالمنا اليوم من اضطراب في الأحكام واختلال في معايير التقييم ظاهرة عابرة يمكن تجاوزها مع الوقت، بل غدا مظهرًا راسخًا من ملامح المرحلة التي نعيشها. فالمشكلة لم تعد في غياب المعايير فحسب، بل في انقلابها، وفي إعادة تعريف مفاهيم أساسية مثل النجاح، والجدارة، والاستحقاق، والتأثير، على نحو يفرغها من مضمونها الحقيقي.
في مشاهد كثيرة من واقعنا المعاصر، لم يعد صاحب العلم، ولا الكفاءة، ولا الخبرة المتراكمة، هو من يتصدر المشهد أو يحظى بالتقدير. بل تحوّل الطلب، في أحيان غير قليلة، نحو فئات تجيد تسويق ذاتها، وتصنيع صورة براقة تخلو من العمق، وتستند إلى أدوات شكلية، لا إلى محتوى معرفي أو قيمة مضافة أو أثر حقيقي. وهكذا، أصبحت القدرة على الظهور أعلى شأنًا من القدرة على الإنجاز، وغدا الصخب بديلاً عن الكفاءة، والانتشار السريع معيارًا للتفوّق.
في هذا السياق، تحولت السطحية إلى «موضة»، وأضحى التزييف مهارة يُكافأ صاحبها، وتقدمت شخصيات مهترئة، فكريًا ومهنيًا، إلى مواقع القيادة والتأثير. كما تصدّر آخرون مشهد الفن والإعلام وصناعة الرأي العام دون امتلاك الحد الأدنى من الموهبة أو المعايير المهنية أو المسؤولية الأخلاقية. ولم يكن ذلك نتيجة استحقاق حقيقي، بقدر ما كان ثمرة توجّه مجتمعي واعيًا كان أو غير واعٍ قرر أن يصنع قدوات بديلة، ويمنحها شرعية لا تقوم على علم ولا على تجربة ولا على قيمة.
الأخطر من ذلك، أنّ هذه الصورة تُقدَّم في كثير من الأحيان وكأنها انعكاس صادق لحالة المجتمع، وكأن مجتمعاتنا باتت فقيرة معرفيًا، عاجزة عن إنتاج نماذج إيجابية، أو خالية من الكفاءات القادرة على القيادة والتأثير. والحقيقة أن هذا التصوير مجحف ومضلل في آنٍ واحد. فمجتمعاتنا، على العكس من ذلك، تزخر بالخبرات المتخصصة، وتعج بالمواهب الحقيقية، وتمتلك طاقات شابة قادرة على الإبداع والابتكار وصناعة الفارق، لكنها غالبًا ما تُهمَّش، أو تُقصى، أو لا تُمنح المساحة الكافية للظهور والتأثير.
ورغم وجود شباب مبدعين، وروّاد أعمال، وأصحاب أفكار خلاقة، ورغم ما بذلته الدولة في مراحل مختلفة من جهود لدعم هذه الفئات وتمكينها وفتح مسارات أمامها، إلا أن هذا الحراك الإيجابي لا يزال غير متوازن أمام الضجيج المقابل. ضجيج يصنعه من يسيئون إلى الفكرة، ويشوّهون النموذج، ويختزلون النجاح في صورة أو عدد متابعين أو لحظة عابرة من الشهرة، دون اعتبار للأثر أو المسؤولية أو القيمة بعيدة المدى.

إن اختلال موازين التقييم لا ينعكس أثره على الأفراد وحدهم، بل يطال المجتمع بأكمله. فهو يربك بوصلته، ويقوّض ثقته بمعايير العدالة والاستحقاق، ويزرع الشك في جدوى الاجتهاد والعمل الجاد، ويكافئ الرداءة على حساب التميّز، والادعاء على حساب الإنجاز. ومع مرور الوقت، يتحول هذا الخلل إلى حالة عامة تُعيد تشكيل الوعي الجمعي، وتُفرغ مفاهيم النجاح والقدوة من مضمونها الحقيقي.
لذلك، فإن معركة الوعي في زمننا الراهن لم تعد معركة أفكار فقط، بل أصبحت معركة قيم ومعايير بامتياز. معركة تتطلب إعادة طرح أسئلة جوهرية: من يستحق أن يُقدَّم إلى الواجهة؟ ومن يجب أن يكون في الصدارة؟ وعلى أي أساس نقيس النجاح والتأثير؟ وهل نحتكم إلى المعرفة والخبرة والأثر، أم نكتفي بالصورة والصوت والضجيج؟
الإجابة عن هذه الأسئلة هي الخطوة الأولى نحو تصحيح الخلل، واستعادة التوازن، وبناء وعيٍ صحي يعيد الاعتبار للقيمة، ويمنح المكانة لمن يستحقها حقًا.








طباعة
  • المشاهدات: 6185
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
27-12-2025 08:15 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك، هل تنجح إدارة ترامب وحكومة الشرع في القضاء على "داعش" بسوريا؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم