22-12-2025 09:35 AM
بقلم : م. صلاح طه عبيدات
عندما تختلط الجغرافيا بالكرامة، وتضيع البوصلة بين دخان الحروب وضجيج المواقف، يولد الإنسان على حافة ذاته… لا يعرف أهو فردٌ أم وطنٌ يمشي على قدمين.
كان عام 1990 عامًا ثقيلاً، كأنه حجر عالق في صدر الذاكرة. حربٌ لا تكتفي بالخرائط، بل تمتد إلى الأرواح، تشق الصفوف، وتضع الإنسان العربي في امتحان الانتماء قبل أن تضعه في امتحان الخوف. يومها، كانت دمشق ملجأ العابرين من قلق إلى قلق، وكانت ساحة المرجة تشبه قلب الأمة: قديم، متعب، مكتظ بالحكايات.
في فندق شعبي، حيث تختلط رائحة النوم المتعب برائحة الأيام المنهكة، جلست الحقيقة على هيئة رجلٍ مخمور، تحيط به قوارير الخمر كما تحيط الخيبات بأمة مهزومة. كان يشرب لا ليَنسى، بل ليُطلق لسانه، فالسكر أحيانًا لا يمحو الوعي، بل يحرره من أخلاقه.
لم أسأله من أين عرف أنني أردني،وموقف الأردن من حرب العراق آنذاك؛ فبعض الشتائم لا تحتاج إلى جواز سفر. فجأة، وجدت اسمي، وبلدي، وملكي، وتاريخي، موضوعًا على طاولة سباب رخيصة، تُسكب عليها الإهانات كما يُسكب الشراب في كأس لا يرتوي. كان الحضور صامتين، كأن الصمت صار لغة الخائفين، وكأن الكرامة شأنٌ شخصي لا جماعي.
في تلك اللحظة، لم أكن أنا. كنت الأردن كله، واقفًا في جسد رجلٍ أعزل، بلا خطاب سياسي ولا بيان رسمي. كنت ذلك السؤال القديم: إلى متى نظل نبتلع الإهانة باسم الحكمة؟
لا أذكر كيف تحرك جسدي، لكنني أذكر أن روحي سبقتني. انقضضت عليه، لا انتقامًا، بل دفاعًا. سكبت الخمر على رأسه، كأنني أغسل الكلام القذر، وطرحت الجسد الذي نسي إنسانيته أرضًا، ثم هربت… لا خوفًا، بل دهشةً من نفسي.
خرجت إلى ليل دمشق هائمًا، أسأل: هل الكرامة فعلٌ طائش أم ضرورة وجود؟ وهل الوطنية خطاب يُلقى، أم لحظة انفجار حين يُمسّ الجرح؟
عاد الفجر، وعاد معه لطف الله، ذلك الرفيق الخفي الذي لا يظهر إلا بعد أن نُختبر. عدت إلى الفندق خلسة، حملت حقيبتي، وشددت الرحال إلى الأردن، كمن يعود إلى حضنٍ يعرفه ويعرفه.
ومنذ ذلك اليوم، أدركت أن الوطن ليس قطعة أرض فحسب، بل ردّة فعل. وأن بعض المواقف لا تُخطط، بل تُولد حين يلتقي الصدق بالغضب. وأن الكرامة، حين تُهان، لا تطلب إذنًا… بل تنتفض.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
22-12-2025 09:35 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||