14-12-2025 09:51 AM
بقلم : الدكتور علي الصلاحين
حين نتأمل القرآن بمنهج الاستنباط لا بمنطق المصطلحات الحديثة، ندرك أن غياب لفظة «الصحة» لا يعني غياب مفهومها، بل يعني أن القرآن عالج الإنسان من جذوره: روحًا وعقلًا وجسدًا وسلوكًا. فالقرآن لا يقدّم وصفة طبية جزئية، وإنما يضع منظومة تشافٍ شاملة تبدأ من الداخل وتنعكس على الجسد والواقع. أول ما يلفت النظر أن القرآن يربط المرض غالبًا بالفساد في المنهج لا بالخلل العضوي فقط. يقول الله تعالى:﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾
وخطوات الشيطان في المنطق القرآني ليست فقط معصية ظاهرة، بل كل ما يُفسد الفطرة: أكل الحرام، الإفراط، التلوث الأخلاقي، القلق، الظلم، والانفصال عن ميزان الله. الواقع المعاصر يؤكد هذا المعنى؛ فمعظم أمراض العصر ليست أوبئة قاتلة، بل أمراض نمط حياة: توتر، سمنة، سكري، اكتئاب، وأمراض قلب، وكلها مرتبطة بالسلوك قبل الدواء.ثم يأتي القرآن ليؤسس قاعدة التغذية السليمة، لا من باب السعرات، بل من باب الطهارة والاعتدال:
﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ الحلال يحفظ التوازن النفسي، والطيب يحفظ الجسد. والواقع يشهد أن كثيرًا من الأمراض ناتجة عن أطعمة فقدت طيبها: ملوّثة، مصنّعة، أو محرّمة في أصلها أو أثرها. فالقرآن لا يفصل بين الأخلاق والغذاء، لأن الجسد يتأثر بما يدخل إليه ماديًا ومعنويًا.
ومن أعظم خطوات التشافي في القرآن إعادة التوازن؛يقول تعالى:﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾،الإسراف في المنطق القرآني مرض بحد ذاته. والإفراط اليوم هو السبب الرئيس في أمراض لم يعرفها السابقون بهذا الحجم. فالقرآن يضع الوقاية قبل العلاج، لأن الوقاية في ميزانه عبادة .ثم ينتقل القرآن إلى عمق التشافي:القلب.﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ المرض هنا نفسي وسلوكي، لكنه ينعكس جسديًا. وقد أثبت الطب الحديث العلاقة المباشرة بين القلق المزمن، الحقد، الغضب، والخوف، وبين ضعف المناعة واضطرابات الجسد. فالقرآن حين يصف المرض القلبي، لا يفصله عن أثره البدني، بل يضع اليد على أصل العلّة. ويأتي التصريح الحاسم في قوله تعالى:﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الشفاء هنا ليس حصرًا في الرقية أو التلاوة، بل في المنهج الذي يحرر الإنسان من الخوف، ويمنحه الطمأنينة، ويعيد ضبط علاقته بالله وبالحياة. والطمأنينة ليست شعورًا معنويًا فقط؛ بل حالة فسيولوجية تخفّض التوتر، وتُعيد للجسد قدرته الطبيعية على التعافي ،ثم تأتي خطوة التسليم والرضا، وهي من أقوى عوامل التشافي: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾،فالإنسان الذي يعيش الصراع مع المرض يتألم مرتين: مرة بالجسد، ومرة بالخوف. أما من يسلّم أمره لله، فإنه يخفف العبء النفسي، ويمنح جسده فرصة التعافي. وقد أثبت الواقع الطبي أن المريض المتوازن نفسيًا أسرع استجابة للعلاج. ولا يغفل القرآن عن العلاج المادي؛ بل يضعه في إطاره الصحيح دون تقديس ولا إهمال. يقول إبراهيم عليه السلام : ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾
لم ينفِ المرض، ولم ينفِ الأسباب، لكنه نسب الشفاء إلى الله، ليبقى الإنسان متوازنًا بين الأخذ بالأسباب وعدم التعلق بها.
وهكذا، فإن خطوات التشافي في القرآن تبدأ بتصحيح المنهج، وتنقية الغذاء، وضبط السلوك، وشفاء القلب، وطمأنينة النفس، ثم الأخذ بالأسباب الطبية ضمن إطار إيماني متزن. وهذا ما يفتقده العالم المعاصر: وفرة في الدواء، وفقر في الطمأنينة؛ تقدم علمي، وتراجع في المعنى. فالقرآن لا يعالج المرض فقط، بل يعالج الإنسان الذي يُنتج المرض. ومن سار على هديه، لم يُضمن له ألا يمرض، لكنه يُضمن له أن يكون أقرب إلى الشفاء، وأقدر على الاحتمال، وأعمق سلامًا… وهذا في ميزان القرآن هو جوهر العافية، وإن لم تُسمَّ صحة.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
14-12-2025 09:51 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||