14-12-2025 09:39 AM
بقلم : د. هيثم علي حجازي
العنف الطلابي الذي نشهده بين الحين والآخر ليس مجرد مشاجرات عابرة أو تصرفات فردية معزولة، بل هو انعكاس لتحديات أعمق تتصل بالبناء الاجتماعي والثقافي والنفسي لطلبتنا، وبطبيعة المراحل التعليمية التي مرّوا بها.
من أبرز الأسباب التي أسهمت في تفاقم هذه الظاهرة (1) ضعفُ مهارات التواصل وإدارة الخلاف لدى الطلبة، إذ لم تتح لكثير منهم فرصٌ كافية لتعلّم الحوار واحترام الرأي الآخر والتعبير عن الذات بطرق حضارية (2) تلعب الانتماءات الضيقة دوراً مؤثراً في تغذية هذا السلوك، حيث تتحول المشاجرة الفردية أحياناً إلى مسألة اعتبارية مرتبطة بعصبيات اجتماعية ومناطقية تتجاوز الطالب نفسه، مما يضفي على الفعل العدواني طابعاً جماعياً لا يخدم العملية التعليمية ولا البيئة الجامعية (3) كذلك لا يمكن أن نغفل الضغوط النفسية والاقتصادية التي يعيشها الشباب اليوم، وهي ضغوط تترك أثراً واضحاً على توازنهم الانفعالي وسلوكهم اليومي. فالقلق من المستقبل، والتحديات الاقتصادية، والضغط الأكاديمي، جميعها عوامل تجعل بعض الطلبة أكثر عرضة للانفعال والتصرف العدواني (4) كما أن ضعف الأنشطة الجامعية التي كان من المفترض أن تشكل متنفساً إيجابياً لطاقاتهم، وتمنحهم شعوراً بالانتماء والمشاركة، يجعل الطالب أقل اندماجاً وأكثر قابلية للانجراف نحو سلوكيات سلبية (5) علاوة على ذلك، فإن التعليم عن بُعد أفرز انعكاسات اجتماعية وسلوكية نعيش آثارها اليوم. فكثير من الطلبة يدخلون إلى الجامعة وهم يفتقرون إلى خبرات التفاعل الاجتماعي المباشر التي تُكسبهم مهارات إدارة المشاعر واحترام الآخرين وتنظيم السلوك داخل المساحات المشتركة. كما أن الشعور بالعزلة والانفصال عن المؤسسة التعليمية جعل بعضهم ينظر إلى الجامعة كوسيلة للحصول على شهادة فقط، لا كبيئة قيمية تُسهم في بناء الشخصية مما يؤدي لدى بعض الطلبة الى بروز سلوكيات تتسم بالفردية وضعف الانضباط (7) والأكثر أهمية أن الحديث عن أسباب العنف لا يكتمل دون العودة إلى نقطة البداية: المدرسة والمناهج. فطلبة الجامعات هم مخرجات النظام التعليمي المدرسي، وما يتلقونه في تلك المرحلة يؤسس بشكل مباشر لسلوكهم الجامعي. والمناهج التي تركز على الحفظ والتلقين أكثر من مهارات الحياة والحوار والعمل الجماعي تترك الطالب دون الأدوات الأساسية التي تساعده على التفاعل السليم مع مجتمعه الجامعي. كما أن المدرسة التي لا تمنح طلبتها فرصاً حقيقية لممارسة الديمقراطية الطلابية، أو لحل الخلافات بأساليب حضارية، أو للتعبير عن آرائهم بأمان، تخلق جيلاً يدخل الجامعة وهو غير مهيأ لاستيعاب مساحة الحرية الأوسع التي توفرها المرحلة الجامعية. وقد يؤدي هذا الانتقال المفاجئ إلى سوء استخدام تلك الحرية، لغياب التدريب على اتخاذ القرار، وتحمل المسؤولية، وتنظيم السلوك (8) ولا يقلّ أهمية عن ذلك ضعف التربية القيمية الحديثة داخل المدارس. فالقيم ليست دروساً نظرية تُدرّس على الورق، بل هي ممارسات تُكتسب من خلال المشاركة والتجربة والتعامل اليومي، قيم مثل احترام الاختلاف، والتعاطف، وتقدير التنوع، وقبول الآخر، وكلها يجب أن تُبنى منذ المراحل المدرسية، حتى يصبح الطالب في الجامعة أكثر نضجاً وقدرة على التعامل مع مواقف الاحتكاك والتنوع داخل الحرم الجامعي.
إن مسؤولية معالجة العنف الطلابي مسؤولية مشتركة لا تقتصر على الجامعات وحدها. فلا بد من تطوير المناهج المدرسية لتتضمن مهارات الحياة والتربية المدنية وحل النزاعات والتربية النفسية، بحيث تتشكل لدى الطالب بنية معرفية وسلوكية متوازنة قبل وصوله إلى الجامعة. كما ينبغي إعادة الاعتبار للحرم الجامعي بوصفه مساحة حضارية للنمو، عبر تفعيل الأندية والأنشطة الثقافية والرياضية والفنية، لأن الطالب الذي يجد مكاناً يعبّر فيه عن طاقاته بشكل إيجابي يكون أقل قابلية للانخراط في العنف.
وإلى جانب ذلك، يجب تعزيز دور الإرشاد النفسي والاجتماعي داخل الجامعات ليكون قادراً على التدخل المبكر ومعالجة السلوك قبل تفاقمه، وبناء شراكة حقيقية بين الجامعة والأسرة والمجتمع، فالعنف لا يُولد داخل الحرم الجامعي فقط، بل هو امتداد لبيئة اجتماعية كاملة. كما أن تطبيق العقوبات يجب أن يكون عادلاً وحازماً، مع توفير برامج إصلاح سلوكي مرافقة، لأن الهدف ليس العقاب بحد ذاته، بل إعادة تشكيل السلوك وتصحيح المسار.
وفي الختام، فإن الطالب الجامعي ليس مجرد فرد داخل قاعة دراسية، بل هو مستقبل وطن، ومرآة لسنوات من التربية والتعليم. وكلما منحناه بيئة تعليمية صحية، ومهارات حياتية متوازنة، سنضمن جيلاً قادراً على الحوار لا العنف، وعلى البناء لا الهدم، وعلى الإسهام في رفعة هذا الوطن الذي يستحق الأفضل دائماً.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
14-12-2025 09:39 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||