10-12-2025 09:23 AM
بقلم : الصيدلي عدوان قشمر نوفل
في رحلة البحث عن القيم الإنسانية الأصيلة التي تبنى عليها العلاقات وتزكو بها النفوس،
هذه المفاهيم وعرضها في قالب يجمع بين الفلسفة والأدب والدين.
نستشهد بآراء عدد من الكتاب والفلاسفة وأصحاب الشرائع لنضع يدنا على الفروق الدقيقة بين فضيلتين عظيمتين، هما: الإخلاص و الوفاء.
أولا: في التعريف؛
التمييز الجوهري بين المفهومين:
· الإخلاص: هو طهارة القلب والنية. هو أن يكون الباعث على الفعل أو القول حب الخير لذاته، أو أداء الواجب نحو الله أولاً، ثم نحو الآخرين، دون انتظار مقابل من مكافأة أو شكر أو مجد شخصي. الإخلاص هو أن تُحب من أجل الله، وأن تعمل وأنت ترى أن الله يراك، حتى لو لم يرك الناس. وهو قيمة تتجه من الداخل إلى الخارج؛ من تنظيف السريرة إلى صدق السلوك.
· الوفاء: هو الثبات على العهد والاستمرارية في العمل بمقتضى المحبة أو الواجب. الوفاء هو ترجمة عملية للإخلاص عبر الزمن. هو أن تظل متمسكا بالوعد، محافظا على العهد، مقدرا للجميل، عندما تتغير الظروف أو تضعف الدوافع. الوفاء هو اختبار الإخلاص في أفران الزمن.
ورد في القرآن الكريم، حيث يربط الله تعالى بين التقوى والوفاء بالعهد فيقول: "بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (آل عمران: 76). بينما يجعل الإخلاص شرطا لقبول العمل فيقول: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّين" (البينة: 5). فالإخلاص هنا هو جوهر العبادة.
ثانيا: من منظور الفلاسفة والكتاب
أراء بعض الفلاسفة:
· أفلاطون: يرى أن الإخلاص (الذي يمكن أن ندخله في مفهوم العدالة عنده) هو فضيلة الروح العاقلة، وهو أساس قيام المدينة الفاضلة، حيث يعمل كل فرد بما يوافق قدراته مخلصًا للصالح العام. أما الوفاء فيتجلى في علاقة الحكام بالشعب وعلاقة الأصدقاء ببعضهم، وهو الثبات على مبادئ الحق والخير والجمال.
· كانط: يميز التمييز الأخلاقي الصارم؛ فالإخلاص عند كانط هو فعل الواجب من أجل الواجب ذاته، وليس لأي منفعة. إنه الأمر القطعي. أما الوفاء فهو الالتزام بالوعد كواجب أخلاقي، حتى لو أصبح هذا الوعد مرهقا. كسر الوعد، عند كانط، هو إهدار للكرامة الإنسانية.
· نجيب محفوظ: في رواياته، نجد الشخصيات المخلصة لأنفسها ولقيمها (مثل كامل لبيب في "زقاق المدق") هي التي تحافظ على إنسانيتها في عالم مضطرب. بينما الوفاء قد يكون ثقيلًا كما تجسده شخصيات أخرى تكافح للوفاء بعهودها رغم صعوبة الحياة.
ثالثا: الإخلاص والوفاء في علاقتهما ببعضهما.
العلاقة بين الفضيلتين علاقة تكاملية، ولكنها ليست تلازمية بالضرورة. فقد يكون هناك:
1. إخلاص بلا وفاء: وهو حالة نادرة ولكنها ممكنة. أن يبدأ الإنسان عملًا بدافع إخلاص نقي، ولكن ظروفا قاهرة أو ضعفا في الإرادة تحول دون استمراره والوفاء به. هنا يكون النقص في القوة والثبات، وليس في نقاء النية الأولى.
2. وفاء بلا إخلاص: وهي حالة أكثر شيوعا. أن يفي الشخص بعهده أو يلتزم بعلاقته بدوافع خارجية كالخوف من المجتمع، أو طمعا في منفعة مستقبلية، أو حفاظا على المظهر، وليس حبًا صادقا أو إيمانا بالواجب. هذا الوفاء قد يبدو مماثلا للوفاء الحقيقي في الظاهر، لكنه يفتقر إلى الروح والجوهر، وهو في الحقيقة "وفاء الشكل" وليس "وفاء الجوهر".
الفضيلة الكاملة تكمن في الجمع بين الإخلاص في البداية والوفاء في النهاية. فالإخلاص هو الروح، والوفاء هو الجسد. والإخلاص هو البذرة الطيبة، والوفاء هو الشجرة المثمرة.
رابعا: تجليات كل منهما في الحياة
· الإخلاص يتجلى في:
· نية العامل في عمله.
· سريرة المحب في حبه.
· توجه المتعبد في عبادته.
· عمل الإنسان عندما يكون بعيدًا عن الأعين.
· الوفاء يتجلى في:
· الالتزام بالوعود والعهود.
· الاعتراف بالجميل وشكر المحسن.
· الثبات في العلاقات الإنسانية (صداقة، حب، زواج).
· الاستمرار في أداء الواجب حتى في أصعب الظروف.
خاتمة:
نؤكد أن مجتمعا يفتقر إلى الإخلاص هو مجرد واجهة زائفة تنتشر فيه النفاق، ومجتمعا يفتقر إلى الوفاء هو مجتمع سائب تتهاوى فيه الروابط و هوتضيع فيه الثقة. وأن السير على درب الكمال الإنساني يبدأ بتصفية القلب بالإخلاص، وتثبيت القدم بالوفاء. فالإخلاص يمنح الفعل قيمته المعنوية، والوفاء يمنحه قوته الاستمرارية. وبهما معًا تُبنى حياة فردية مستقيمة، ومجتمعات إنسانية راسخة.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
10-12-2025 09:23 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||