08-12-2025 08:26 AM
بقلم : د. زياد جلال الحنفي
لم يعد الإنسان المعاصر ذلك المواطن التقليدي الذي يتفاعل مع دولته ومجتمعه عبر حدود المكان والزمان. لقد ولِد نموذج جديد يسمّى "المواطن الرقمي"، كائن يمتد وجوده من الواقع إلى الفضاء الافتراضي، ويتشكل وعيه وسلوكه من خلال أدوات رقمية أصبحت جزءاً من يومه، من قراراته، ومن علاقته بالدولة والمجتمع. هذا التحول لم يكن مجرد نتيجة لتطور التكنولوجيا، بل انعكاس لتغيّر عميق في طبيعة الإنسان نفسه، في طريقة تفكيره، وفي الطريقة التي يدرك بها دوره في الحياة العامة.
المواطن الرقمي لم يعد ينتظر الخدمات بل يشارك في صناعتها، يتوقع السرعة والشفافية، ويقيس جودة التجربة اليومية بقدر ما يشعر أن الدولة تتواصل معه بلغته الجديدة: لغة البيانات والأنظمة الذكية. ومع انتشار الهوية الرقمية، والمنصات الحكومية الإلكترونية، والتوقيع الرقمي، أصبح المواطن أكثر قرباً من مؤسسات الدولة، وأكثر قدرة على التعبير عن رأيه، وأكثر مطالبة بأن تكون القوانين والسياسات متوافقة مع إيقاع العصر.
لكن هذا التحول لم يكن خالياً من التحديات. فالمواطن الرقمي يعيش في عالم مزدحم بالمعلومات، يواجه مخاطر تضليل رقمي، وتسريبات بيانات، وعوالم تتحرك بسرعة تفوق قدرة البعض على التكيف. لذلك أصبح الوعي الرقمي جزءاً من الأمن المجتمعي، وصار فهم تقنيات الفضاء الإلكتروني شرطاً للحفاظ على الهوية والخصوصية والقيم.
ومع ذلك، فإن قوة المواطن الرقمي تكمن في قدرته على تحويل التكنولوجيا إلى أداة للارتقاء، لا مجرد وسيلة ترفيه أو استهلاك. إنه يبتكر، يتعلم، يبني مشاريعه، ويتواصل مع العالم دون مغادرة مكانه. وهو، في الوقت ذاته، يعيد تشكيل مفهوم المواطنة من جديد، ليس عبر الولاء الجغرافي فقط، بل عبر جودة التفاعل الرقمي، والقدرة على استخدام الأدوات الحديثة للمشاركة في التنمية وصناعة القرار.
وفي هذا السياق، يبدو واضحاً أن مستقبل الدولة الحديثة يتوقف على قدرتها على فهم هذا المواطن الجديد، والاعتراف بأن احتياجاته وتوقعاته مختلفة، وأن منظومة الحقوق والواجبات يجب أن تتوسع لتشمل وجوده الرقمي وسلامته المعلوماتية. فالمواطن الرقمي ليس مشروعاً فردياً، بل هو ثمرة تحوّل عالمي يفرض على الدول أن تواكب إيقاعه وتعيد صياغة علاقتها مع الإنسان.
إننا أمام لحظة تاريخية يعاد فيها تعريف معنى المواطنة، ويتحوّل العالم الرقمي من مجرد مساحة افتراضية إلى امتداد طبيعي لحياة الناس. وفي هذه اللحظة، يصبح بناء إنسان رقمي واعٍ وقادر، هو الاستثمار الحقيقي في مستقبل المجتمعات، والضمانة الأهم لمجابهة تحديات زمن لم تعد حدوده تُقاس بالمسافات، بل بعمق حضور الإنسان داخل فضائه الرقمي.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
08-12-2025 08:26 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||