26-11-2025 08:10 AM
بقلم : د. محمود الحبيس
يمر الأردن اليوم بمرحلة دقيقة في مسار إصلاح الإدارة العامة، وسط نقاش واسع حول التحول إلى منهجية الاستقطاب في التعيينات وما إذا كانت تمثل خطوة تحديثية حقيقية أم أنها أوجدت تحديات إضافية أثقلت كاهل طالبي الوظيفة العامة.
لقد جاءت التوجيهات الملكية السامية الداعية إلى مراجعة شاملة لمنظومة الإدارة العامة لتعيد التأكيد على ضرورة بناء جهاز إداري حديث، قادر على مواكبة التطورات، وإزالة التشوهات المتراكمة، وتعزيز ثقة المواطن بمؤسسات الدولة. وبهذه الرؤية، أصبح من الطبيعي إعادة النظر بآليات التعيين وأدوات اختيار الكفاءات.
ظلّ نظام الخدمة المدنية على مدى عقود إطارًا وطنيًا حافظ على التوازن في التعيينات، وقدم نموذجًا أردنيًا مميزًا في إدارة الموارد البشرية. وقد ساعدت تحديثاته المتعاقبة على ضبط العملية وتحقيق قدر كبير من العدالة وتكافؤ الفرص، ما جعله مرجعًا مهنيًا يُحتذى.
ومع إطلاق مسار التحديث الإداري، تعلّق الأردنيون بآمال كبيرة على أن تكون الخطوات الجديدة قادرة على معالجة تراكمات السنوات الماضية، وتحسين الخدمات، وترسيخ معايير الشفافية والنزاهة. وإعلان إنشاء هيئة الخدمة والإدارة العامة كان رسالة واضحة بأن الدولة تتجه نحو اختيار الكفاءات بمعايير أكثر مهنية.
إلا أن التطبيق العملي كشف عن ثغرات مؤثرة، أبرزها التحول من التقديم عبر ديوان الخدمة المدنية إلى آلية الاستقطاب. فرغم أنها خطوة تبدو معاصرة من حيث المبدأ، فإنها أدت إلى تعقيد الإجراءات بدلاً من تبسيطها، إذ بات الشاغر الواحد يجذب آلاف المتقدمين الذين يخوضون سلسلة طويلة من الإجراءات: إعلان، فرز، تدقيق، اعتراضات، امتحان ديوان الخدمة، مقابلات، ثم انتظار إعلان النتائج. وعلى الرغم من النوايا الحسنة، أصبحت العملية مرهقة ولا تحقق معنى الإصلاح الذي وعدت به خارطة التحديث.
ولمعالجة هذا الوضع، تبدو الحاجة ملحّة إلى هندسة جديدة لآلية الاختيار، تقوم على توزين عادل لمجموعة عناصر، تشمل: المؤهل العلمي، وسنة التخرج، والدورات التدريبية، بالإضافة إلى علامة امتحان ديوان الخدمة المدنية. والأهم أن لا يكون الامتحان بنظام ناجح/راسب، بل جزءًا من علامة تنافسية شاملة تعكس كفاءة المتقدم بشكل واقعي.
ومن غير المقبول تقييم خريج درس أكثر من 132 ساعة معتمدة عبر 30 سؤالاً فقط؛ فهذه الآلية قد تظلم كفاءات وتميل إلى التبسيط المخل، ما يستوجب إعادة النظر بها جذريًا. كما أن تكرار الإعلان الأسبوعي عن شواغر تستقطب آلاف المتنافسين يقود إلى ما يشبه "دوامة مرهقة" تفقد المواطن ثقته بالعملية وتُشعره بالضياع بين الإجراءات.
رغم ذلك، يبقى الأردن بلد الإرادة الصلبة، لا يتراجع أمام التحديات. فالإصلاح الإداري ليس خيارًا تكميليًا، بل واجب وطني وضرورة يفرضها المستقبل. والمواطن الأردني يستحق إدارة عامة حديثة، منصفة، رشيقة، تعرف قيمة الوقت، وتحفظ كرامة الإنسان، وتتيح منافسة نزيهة تمنح كل ذي حق حقه.
إن رؤية جلالة الملك تشكل البوصلة الأوضح لمسار الإصلاح، ولا بد من أن تنعكس هذه الرؤية في تفاصيل التطبيق، لا في العناوين فقط. فالأردن قادر على تقديم نموذج متقدم في التحديث الإداري، إذا صُححت المسارات وجرى ضبط آليات الاختيار بما يرفع كفاءة الجهاز الحكومي ويعزز ثقة الناس.
وما دام الوطن أقوى من كل ثغرة، فإن إصلاح المسار ليس صعبًا بل ضرورة وطنية تعيد الاعتبار لقيم الشفافية وتكافؤ الفرص. ففي هذا البلد الذي حفظته العناية الإلهية، لا مكان لتعقيد يُرهق المواطن، ولا لإجراء يُفقده الأمل. هنا يكون الإصلاح لأن الملك يريد، ولأن المواطن يستحق، ولأن الدولة تطمح إلى إدارة تقود المستقبل بثقة وثبات.
وستبقى بوصلة الدولة ثابتة: وطن قوي… إدارة عادلة… ومواطن مرفوع الرأس في كل خطوة من خطوات التحديث.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-11-2025 08:10 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||