حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الثلاثاء ,25 نوفمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 5848

العشي يكتب: جيل بلا ذاكرة… ما الذي يفعله المحتوى السريع بعقولنا؟

العشي يكتب: جيل بلا ذاكرة… ما الذي يفعله المحتوى السريع بعقولنا؟

العشي يكتب: جيل بلا ذاكرة… ما الذي يفعله المحتوى السريع بعقولنا؟

25-11-2025 08:26 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : الإعلامي الدكتور محمد العشي
يشهد العالم موجة غير مسبوقة من التحولات الرقمية التي غيّرت طريقة الإنسان في التفكير والتذكر وتلقي المعرفة. فبعد أن كان الفرد يبحث عن الكتب والمقالات والتحليلات الطويلة لفهم القضايا، أصبح اليوم يكتفي بمقاطع قصيرة لا تتجاوز ثوانٍ معدودة، يمرّ عليها مرورًا سريعًا دون أن تمنحه فرصة للتأمل أو الفهم الحقيقي. ومن هنا بدأ يظهر ما يسميه المختصون بـ «جيل بلا ذاكرة»، جيل يعيش بعقل ممتلئ بالمشاهد، لكنه فارغ من المضامين، جيل متخم بالمنبّهات الرقمية، لكنه يفتقر إلى القدرة على التذكر والتحليل والاستيعاب. ومن بين جميع الظواهر الرقمية، يبقى المحتوى السريع هو الأكثر تأثيرًا في تشكيل هذا الواقع الجديد، وهو ما يجعل السؤال ضروريًا: ماذا يفعل المحتوى السريع بعقولنا؟ وكيف يعيد صياغة الذاكرة البشرية؟
المحتوى السريع… من وسيلة ترفيه إلى بنية فكرية جديدة
لم يعد المحتوى السريع مجرد وسيلة تسلية أو نوعًا من الترفيه السهل، بل أصبح نمطًا فكريًا متكاملاً يعيد تشكيل طريقة التعامل مع المعلومة. فالعقل الذي يستهلك عشرات المقاطع المتلاحقة في دقائق معدودة يتحول تدريجيًا إلى عقل اعتاد التلقي الخاطف، وأصبح ينتظر معلومة جاهزة دون تعب أو جهد بحث أو قراءة. ومع تكرار هذا النمط يوميًا، يفقد الدماغ القدرة على التركيز الطويل، ويصبح أسيرًا للانطباعات العاجلة بدل الأفكار العميقة. وبذلك يتحول المحتوى السريع من خيار ترفيهي إلى أسلوب تفكير يؤثر في قرارات الإنسان ونظرته للعالم، ويجعله يميل إلى السطحية على حساب العمق.
تأثيرات التشتت الذهني… حين يصبح الانتباه سلعة نادرة
لقد أثبتت دراسات متخصصة في علم الأعصاب أن الإنسان المعاصر يواجه انخفاضًا ملحوظًا في قدرته على التركيز المستمر نتيجة الاستهلاك المتكرر للمحتوى القصير. فالدماغ الذي اعتاد الانتقال السريع بين الشاشة والأخرى، ومن فكرة لأخرى، يفقد تدريجيًا القدرة على الثبات والاستيعاب. ومع الوقت، تصبح القراءة الطويلة مهمة صعبة، ويشعر الفرد بالملل عند محاولة متابعة نص ممتد. وهذا التراجع في الانتباه يؤدي إلى سلسلة من المشكلات، أبرزها ضعف القدرة على التحليل، وعدم القدرة على ربط الأحداث بسياقها، وانخفاض القدرة على تكوين رأي متكامل. وهكذا يتحول المجتمع إلى مجموعات من الأذهان المشتتة التي تتفاعل لحظيًا لكنها لا تخزن شيئًا في الذاكرة.
ذاكرة معطّلة… كيف يفقد الجيل الجديد القدرة على التذكّر؟
ليست المشكلة أن الجيل لا يريد التذكر، بل أن آلية التذكر نفسها أصبحت معطّلة. فالذاكرة تحتاج إلى تركيز ومعالجة ثم تخزين، وهذه المراحل الثلاثة لا تتم في بيئة المحتوى السريع، لأن الدماغ لا يمنح نفسه الوقت الكافي للانتقال من الاستقبال إلى الفهم. لذلك قد يتذكر الفرد شكل فيديو شاهده قبل أيام، لكنه لا يتذكر فكرته أو رسالته. وقد يحفظ آلاف المقاطع، لكنه لا يحفظ معلومة واحدة يمكن البناء عليها. وهذا النوع من الذاكرة السطحية يخلق إحساسًا زائفًا بالمعرفة، لكنه في الحقيقة يضعف القدرة على إدراك التفاصيل ويجعل الذهن يقف عند حدود الصورة دون الوصول إلى عمق الفكرة.
لماذا ينجذب الناس إلى المحتوى السريع؟
لا ينتشر المحتوى السريع صدفة، بل نتيجة منظومة متكاملة من العوامل. فالخوارزميات الرقمية في المنصات العالمية مصممة لتقديم ما يحفّز الدماغ على الاستمرار في المشاهدة. وهذا النوع من المحتوى يمنح شعورًا فوريًا بالمتعة، ما يجعل المتلقي أسيرًا له دون أن يشعر. كما أن سهولة إنتاج المحتوى السريع جعلت كل فرد قادرًا على صناعة فيديو خلال دقائق، ما أدى إلى ازدحام المنصات بمواد لا تخضع لمعايير الجودة أو الموثوقية. ويأتي فوق هذا كله ثقافة العصر السريع التي تدفع الإنسان إلى اختصار كل شيء، حتى المعرفة نفسها، في بضع ثوانٍ.
عندما يصبح المحتوى السريع مصدرًا للمعرفة
الخطر الحقيقي لا يكمن في مشاهدة المحتوى السريع بوصفه ترفيهًا، بل في تحوله إلى مصدر أول للمعلومات. فقد أصبحت شرائح واسعة من الناس تبني أفكارها السياسية والاجتماعية وحتى الطبية على مقاطع قصيرة غير موثوقة، ما أدى إلى انتشار «نصف المعرفة»، وهي أخطر من الجهل لأنها تمنح صاحبها ثقة لا تستند إلى أساس. وهنا يصبح المجتمع مستهلكًا لانطباعات سريعة، لا لأفكار مُحكمة، وينتشر الخطأ بسرعة تفوق قدرة الحقيقة على اللحاق به. والنتيجة: ثقافة عامة هشة، خالية من الروابط المعرفية، تعتمد على ردود أفعال عابرة لا على فهم متكامل.
تآكل الوعي… من أين يبدأ وكيف يتطور؟
لا يظهر تآكل الوعي فجأة، بل يتسلل تدريجيًا عبر سلسلة من التغيرات السلوكية والعقلية. يبدأ الأمر بفقدان القدرة على القراءة الطويلة، ثم تراجع القدرة على التفكير النقدي، ثم ضعف القدرة على النقاش المنطقي. ومع الوقت، تختفي مهارة التحليل العميق لصالح الانطباعات العابرة. وحين يفقد الإنسان ذاكرة السياق، يصبح غير قادر على فهم الأحداث أو ربطها ببعضها. وهذا النوع من الوعي المجزأ يخلق جيلًا يعيش اللحظة، لكنه لا يمتلك رؤية للمستقبل، لأنه ببساطة فقد القدرة على الربط والاستنتاج.
كيف يمكن معالجة الظاهرة؟
التعامل مع هذه المشكلة يحتاج إلى وعي فردي ومؤسساتي. فالأمر لا يقتصر على تقليل ساعات استخدام منصات التواصل فقط، بل يحتاج إلى تغيير في طريقة الاستهلاك نفسه. فالقراءة الطويلة ليست رفاهية، بل ضرورة لإعادة تدريب الدماغ على التركيز. كما أن تخصيص وقت يومي بلا هواتف أو شاشات يساعد على استعادة الهدوء الذهني. ويمكن كذلك تحويل المحتوى السريع إلى بوابة للمعرفة بدل أن يكون بديلاً عنها، وذلك عبر متابعة المصادر الموثوقة التي تقدم مادة مختصرة لكنها دقيقة. والأهم هو أن يبدأ الفرد في بناء عاداته المعرفية من جديد، بعيدًا عن ضجيج المقاطع المتلاحقة.
دور الإعلام في إنقاذ الوعي العام
الإعلام، بمؤسساته وصحفِه ومنصاته، يمتلك فرصة تاريخية لاستعادة دوره الحقيقي في بناء الوعي. فحين يقدّم الإعلام محتوى منظّمًا، عميقًا، موثقًا، فإنه يخلق توازنًا مفقودًا في عالم يزداد سطحية. ويستطيع الإعلام أن يعيد ثقة الجمهور بالمعرفة المكتوبة، وأن يقدم نموذجًا مختلفًا عن محتوى السرعة، نموذجًا يعيد للقارئ قدرته على التفكير. فالمجتمع بحاجة إلى من يقوده نحو الوعي لا نحو الضجيج، وإعلام مسؤول قادر على سد الفجوة التي صنعتها المنصات السريعة.
وفي النهاية لن يتوقف المحتوى السريع عن الانتشار، ولن تتوقف المنصات عن تغذيته، لكن الخيار الحقيقي يبقى في يد الفرد. فالدماغ الذي يعتاد السرعة يفقد تدريجيًا قدرته على التعمق، أما الذهن الذي يمنح نفسه فرصة للفهم فإنه يمتلك القدرة على صناعة وعي مختلف. ولأن مستقبل الأجيال يتوقف على نوع المعرفة التي يتلقونها، يصبح من الضروري مواجهة ظاهرة «جيل بلا ذاكرة» بفكر واعٍ وتربية معرفية تُعيد للإنسان علاقته بحقيقته وقدرته على التفكير. فالمعركة اليوم ليست معركة ضد التكنولوجيا، بل معركة ضد سطحية التفكير وضد ذوبان الذاكرة في موجة المحتوى المتلاحق.
جيل بلا ذاكرة يعني مجتمعًا بلا بوصلة… ومجتمع بلا بوصلة هو مجتمع يسهل توجيهه، ويصعب إنقاذه.











طباعة
  • المشاهدات: 5848
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
25-11-2025 08:26 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل يرضخ نتنياهو لضغوط ترامب بشأن إقامة دولة فلسطينية؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم