22-11-2025 04:43 PM
بقلم : أ.د غازي الرقيبات
تناقلت وسائل الاعلام اليومين الماضيين قيام البنوك باتخاذ إجراءات بحق رجال اعمال اردنيين متعثرين، وهنا أرى انه في لحظات نادرة كهذه، يتوقف فيها ضجيج السوق، وتعلو فيها همسات الخوف فوق أصوات الأرقام، ندرك أن الوطن ليس مجرد مؤسسات تتقاطع مصالحها، ولا بنوكًا تطالب بحقوقها، ولا رجال أعمال يتعثرون تحت وطأة التزاماتهم؛ فالوطن، في مثل هذه اللحظات، هو ميزان دقيق، إن اختلّ طرف منه اهتزّ الباقي، وما يحدث اليوم من إجراءات مصرفية واسعة، وحجوزات على أصول رجال أعمال متعثرين، ليس خبرًا عابرًا في شاشة، بل علامة تحذير تقول لنا، بوضوح لا لبس فيه: إن الاقتصاد الوطني بحاجة إلى عقل أهدأ، وغيرة وطنية أعمق، قبل أن ندخل جميعًا في دائرة لا رابح فيها.
نعم انه ليس صراعًا بين دائن ومدين، بل اختبارًا لقيمة الوطن، قد يبدو المشهد من بعيد صراعًا تقليديًا: بنوك تريد أموالها، وشركات تعاني ضيق السيولة، وقوانين تُفعّل لاسترداد الحقوق، لكن الحقيقة أشد حساسية: فالأصل المحجوز يفقد قيمته عند بيعه تحت الضغط، والمصنع المتوقف يخمد معه مصدر رزق لعشرات الأسر، والشركة الكبيرة إذا ترنحت، ترتج معها قطاعات كاملة، والبنك نفسه قد يخسر عميله الأكبر ويزيد عبء الديون غير العاملة عليه، إنها ليست أزمة طرف ضد طرف؛ بل إنها أزمة اقتصاد وطني كامل إذا لم نحسن إدارتها، قد تتوسع أكثر مما يحتمله السوق، ومن هنا تنبع المسؤولية والغيرة الوطنية: الغيرة على قيمة تُبنى ببطء، ويمكن أن تنهار بسرعة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا وصلنا إلى هذا المنعطف الحاد والخطر؟ فالتعثر ليس جديدًا، والديون ليست مفاجِئة، لكن: تراكم الالتزامات لسنوات، مع غياب منصة وطنية موحدة للتفاوض، يضاف لها تباطؤ السيولة في السوق، مع ارتفاع التركّز الائتماني، والادهى من ذلك جاء التشخيص للمشكلة متاخرا، كل ذلك جعل المشهد أشبه ببحر هادئ يخفي تحته اضطرابًا عميقًا، إلى أن ظهرت موجة الإجراءات الأخيرة فتكشفت الطبقات كلها دفعة واحدة.
وعليه فما الذي نخسره الان؟، نعم نخسر الثقة إن لم نتحرك جميعا بحكمة، ونخسر القيمة الاقتصادية وطنيا إن أصررنا على الحلول القانونية وحدها، ونخسر فرص العمل إن توقف الإنتاج، ونخسر جاذبية الاستثمار إن بدا السوق متشنجًا لا يحتمل الصدمات، بل قد نخسر (وهذا هو الأخطر) الهم والصوت الوطني الموحد الذي يجب أن يعلو فوق ضجيج الأزمة، وهنا لا بد من تحديد النهج الذي يجب أن نتفق عليه؟ فليس المطلوب ابتكار نظرية اقتصادية جديدة؛ فقط المطلوب أن نقدم مصلحة الوطن على ردّة الفعل، فالطريق واضح لمن يريد أن يراه: "فترة تهدئة وطنية قصيرة تتوقف معها موجة الإجراءات، لتبدأ المفاوضات، ومنصة تفاوض شاملة تجمع البنوك والشركات والبنك المركزي والجهات الحكومية، وكذلك حماية القيمة الاقتصادية قبل القوانين" والتي تتمثل في: إعادة هيكلة وجدولة الدين، إدخال مستثمرين أو دمج للشركات، يضاف لذلك سيولة مرحلية محسوبة تمنع توقف الشركات القابلة للحياة، مع قيام تنسيق الدائنين بصوت واحد لمنع الازدواجية والفوضى، ولا بد هنا من شفافية كاملة من المتعثرين وخطة إنقاذ قابلة للتنفيذ، كل ذلك بمظلة إشراف هادئ من قبل الدولة، ممثلة بالسلطة النقدية(البنك المركزي)، وبالتنسيق مع دائرة مراقب عام الشركات، وهذا يضمن التوازن دون تدخل مفرط، فهذا ليس تنازلاً من طرف لطرف؛ بل هو القاسم المشترك الذي يحمي حقوق الجميع.
نعم قد تختلف الاطراف في التفاصيل، لكنهم بذلك يتفقون في الهدف، فالبنوك لا تريد انهيار الشركات، والشركات لا تريد الإضرار بالبنوك، والدولة لا تريد أزمة توسع ظلالها، والناس يريدون فقط اقتصادًا مستقراً لا يخافون فيه على وظائفهم ومعيشتهم، إذأ، فالهدف واحد وإن اختلفت المسارات: الا وهو إنقاذ القيمة الوطنية قبل أن نخسر ما لا يمكن تعويضه، وهنا تبرز الغيرة على وطنٍ يستحق منا أن نتكاتف قبل أن نلوم بعضنا بعضا، ففي لحظات الأزمة، لا ينجو الأكثر صلابة، بل الأكثر حكمة، هذا اذا علمنا ان الاقتصاد الوطني الأردني قد مرّ قبل اليوم باختبارات كثيرة أصعب وخرج منها أقوى، وهو قادر اليوم على تجاوز هذه الازمة أيضًا، إن اخترنا التعاون بدل التشنج، والتعافي بدل العقوبة، والحوار بدل الجفاء او الصمت، وفي نهاية هذا المشهد المعقّد، يبقى الوطن هو الحقيقة الوحيدة التي لا تُختزل في ميزانيات ولا تُحجز عليها الأصول؛ وطنٌ لا يقاس بقيمة الدين، بل بقيمة الذين ينهضون لحمايته حين تتشابه الطرق وتختلط الأصوات، وحين تحتدم الأزمة، لا يكون الانتصار في أن يكسب طرفٌ على حساب آخر، بل في أن نمنع الخسارة عن الجميع، إن مصلحتنا الوطنية العليا ليست خيارًا أخلاقيًا فحسب، بل قانون بقاء، فلسفته بسيطة وعميقة: أن نرتفع فوق تفاصيل الأزمة كي لا نهوي جميعا معها( لا قدر الله)، وأن نحمي القيمة قبل أن نحمي الموقف، وأن ندرك أن الاقتصاد مثل الروح لا يشفى بالقسوة، بل بالاتزان والوعي والنية الصادقة، وفي لحظة كهذه، لا نحتاج إلى قوة أشد، بل إلى حكمة أعمق، تجعل كل طرف يقول: "علينا ان نقدم مصلحة الوطن، لأنها المصلحة الوحيدة التي تسند الجميع ولا تترك أحدًا خلفها"، عندها نبرهن ان صونُ الاوطان أولى من صيانة الأرصدة.
أ.د غازي عبدالمجيد الرقيبات
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
22-11-2025 04:43 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||