12-11-2025 09:59 AM
بقلم : د. خالد السليمي
تأتي موازنة عام 2026 في واحدة من أكثر المراحل حساسية في تاريخ الاقتصاد الأردني، حيث تتقاطع الوعود الحكومية بالإصلاح المالي مع واقعٍ يثقل كاهل المواطن والمديونية التي تجاوزت حدود القلق إلى حافة الخطر، بعد سنواتٍ من الخطط والبرامج، يجد الأردنيون أنفسهم أمام تساؤل جوهري: هل ما زالت الحكومة تملك أدوات حقيقية للإنقاذ، أم أننا نعيش تكراراً لذات الخطاب الاقتصادي المُملّ الذي يدور في فلك الضرائب والعجز؟ في ظل الظروف الإقليمية الضاغطة وارتفاع تكاليف المعيشة، تبدو موازنة 2026 اختباراً حقيقياً لقدرة الحكومة على ترجمة توجيهات جلالة سيدنا وخطاب الإصلاح إلى أفعال ملموسة، لا إلى أرقامٍ على الورق وخططٍ مؤجلة.
موازنة بين الواقع والطموح
المؤشرات الأولية للموازنة تكشف عن نوايا إصلاحية في ظاهرها، لكنها تصطدم بواقع مالي متشابك ومُعقد، فبينما تتحدث الحكومة عن ضبط النفقات وتعزيز الإيرادات، يبقى المواطن هو الحلقة الأضعف ( للأسف ) فهو يتحمل عبء الأسعار والضرائب غير المباشرة التي تآكلت معها القوة الشرائية بشكل عظيمِ وضخمِ وعنيف، فالإصلاح الحقيقي لا يُقاس بقدرة الدولة على جباية المزيد من الأموال، بل بقدرتها على إدارة الموارد بعدالة وشفافية، والمفارقة أن كل موازنة جديدة تبدأ بالوعود ذاتها: "تحفيز النمو، خلق فرص عمل، دعم الطبقة الوسطى"، لكنها تنتهي دائماً بعجز أكبر، ومواطن أكثر إنهاكاً.
المديونية... الغول الذي يبتلع الأحلام
المديونية العامة التي تقترب من سقف الناتج المحلي الإجمالي لم تعُد مجرد رقم اقتصادي، بل تحوّلت إلى قيدٍ سياسي واجتماعي على قدرة الدولة في اتخاذ القرار المستقل، فالفوائد وحدها تستهلك جزءاً كبيراً من الإيرادات، مما يقلّص فرص الاستثمار في التعليم، والصحة، والبنية التحتية، هذه المديونية ليست "قدراً مُقدراً" علينا، بل نتيجة سياسات مُتراكمة قامت على الحلول السريعة لا الإصلاح الهيكلي، والسؤال الجوهري هنا: هل لدى الحكومة الشجاعة لتبني إصلاحات مؤلمة ولكن ضرورية، أم سنواصل التجميل الإعلامي الذي يؤجل الانفجار ولا يمنعه؟
الطبقة الكادحة... ضحية الأرقام الباردة
في كل موازنة تُذكر الطبقة الفقيرة والعاملة باعتبارها محور الاهتمام ولكنها في الواقع تصبح الضحية الأولى إن لم تكن الوحيدة، فالأجور راكدة، والضرائب ثابتة، والدعم يتناقص تحت شعار "إعادة التوجيه"، الفجوة بين خطاب الإصلاح وواقع السوق تتسع يوماً بعد يوم، ومعها يتراجع الأمل، المواطن الأردني لم يعُد ينتظر زيادة في الراتب بل يبحث عن عدالة في توزيع العبء، الإصلاح الاقتصادي الحقيقي يبدأ من الشارع لا من المكاتب المغلقة، ومن العدالة الاجتماعية لا من جداول الإيرادات والنفقات.
المشاريع الصغيرة والمتوسطة... قلب الاقتصاد المنهك
هذه المشاريع تمثل العمود الفقري للاقتصاد الوطني، لكنها اليوم في غرفة الإنعاش، فبدلاً من دعمها عبر الإعفاءات والتسهيلات، تواجهها الإجراءات البيروقراطية، وارتفاع الضرائب، وصعوبة التمويل، لقد فقدت بيئة الأعمال في الأردن بريقها بعد أن أصبحت تكلفة البقاء فيها تفوق جدوى العمل ذاته، إن إنعاش الاقتصاد لا يتم عبر القروض والمساعدات الخارجية، بل من خلال تمكين هذه المشاريع لتخلق فرص عمل حقيقية وتبني اقتصاداً إنتاجياً مستداماً.
الإصلاح المالي... بين الشعار والتنفيذ
كلمة "الإصلاح" أصبحت الأكثر تداولاً في الخطاب الحكومي، لكنها الأقل حضوراً في الواقع التنفيذي، فالإصلاح لا يعني رفع الضرائب ولا تقليص الدعم، بل إعادة هيكلة شاملة في طريقة إعداد الموازنة وإدارة المال العام، يتطلب الإصلاح إرادة سياسية لا تخشى مواجهة المصالح المتشابكة، وشفافية مطلقة تكشف للناس أين تذهب أموالهم وكيف تُنفق، بدون مصارحة ومكاشفة، تبقى الموازنة مجرد وثيقة شكلية تُعلن ولا تُطبق.
البُعد الاجتماعي في الموازنة
أي موازنة لا تراعي البُعد الاجتماعي محكوم عليها بالفشل، فالفقر ليس مجرد رقم في تقرير، بل واقع يومي يعيشه الأردنيون في الأسواق والمنازل والمدارس، المطلوب أن تتحول الموازنة من أداة محاسبية إلى أداة إنسانية، تُعيد الثقة بين المواطن والدولة، يجب أن يشعر المواطن أن الحكومة تعمل لأجله لا عليه، وأن التنمية ليست حكراً على فئة أو منطقة دون أخرى.
الحكومة بين الأمل والاختبار
حكومة دولة جعفر حسان أمام امتحان صعب، لكنه ليس مستحيلاً، فالثقة الشعبية يمكن استعادتها إذا ما لمس الناس نتائج واقعية، لا تصريحات إعلامية، الموازنة هي انعكاس لفكر الحكومة ونبضها الحقيقي، وإذا أرادت النجاح فعليها أن تُعيد تعريف أولوياتها، بأن تكون الإنسان أولاً، والكرامة المعيشية خطاً أحمر، الإصلاح يبدأ من قرار جريء يواجه الفساد الإداري ويُعيد ترتيب البيت الداخلي قبل أن نطلب من المواطن المزيد من الصبر.
ما بعد الموازنة... إلى أين؟
لن تُقاس موازنة 2026 بحجم أرقامها، بل بقدرتها على إحداث التغيير، فالأردنيون تعبوا كثيراً وكثيراً جداً من سماع لغة "التقشف" الملازمة للحكومات جميعها دون رؤية نتائج على الأرض، الإصلاح ليس بذخاً أو ترفاً بل ضرورة بقاء، والأردن بما يملكه من قيادة حكيمة بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني وولي عهده الأمين سمو الأمير الحسين بن عبدالله وبهذا الشعب الغيور على وطنه وقيادته الصبور على فشل معظم الحكومات قادر على العبور من الأزمة إذا تحوّل القول إلى فعل، لكن إن استمرت السياسات الحالية بذات النهج، فإننا نسير نحو فقدان الثقة قبل فقدان التوازن المالي.
في الختام على حكومة دولة جعفر حسان أن تُدرك أن الموازنة ليست ورقة مالية، بل عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمواطن، النجاح في موازنة 2026 لن يُقاس بالأرقام، بل بمدى قدرة الحكومة على إعادة الثقة والأمل في قلوب الأردنيين، فالإصلاح الحقيقي لا يُعلن بل يُمارس، والمستقبل لن يُبنى بالتصريحات، بل بقرارات شجاعة تبدأ من اليوم، فالأردن لا يحتاج إلى موازنات تُجمّل الواقع، بل إلى إرادة سياسية تكتبه من جديد بروح العدالة والجرأة، إن الموازنة القادمة ليست مجرد أرقام على الورق، بل فرصة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن، المطلوب أن تُترجم وعود الإصلاح إلى أفعال تُشعر المواطن أن الحكومة معه لا عليه، وأن الطبقة الكادحة ليست عبئاً بل أساس الوطن، فالإصلاح لا يُقاس بالخطابات، بل بالقدرة على التغيير الحقيقي في حياة الناس.
توصيات استراتيجية لأصحاب القرار:
1. تحويل الموازنة من وثيقة مالية إلى أداة سياسية للتنمية المستدامة. على الحكومة أن تنقل الموازنة من إطار "الجباية والإنفاق" إلى إطار "التحفيز والإنتاج"، بحيث تصبح أداة لتحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي. فالموازنة يجب أن تترجم رؤية الدولة في التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لا أن تبقى جدول أرقام يقرأه الخبراء وينساه المواطنون.
2. إعادة تعريف مفهوم النمو الاقتصادي من الكم إلى الكيف. النمو الحقيقي ليس في ارتفاع الناتج المحلي فحسب، بل في نوعية هذا النمو: كم فرصة عمل خلقها؟ كم مشروعاً محلياً دعم؟ وكم مواطناً أنقذ من الفقر؟، يجب أن تُربط مخرجات النمو بمؤشرات العدالة، والكفاءة، ومستوى الرضا الشعبي، لا بمعدلات حسابية جافة.
3. تبنّي خطة وطنية لتقليص المديونية تدريجياً عبر الإنتاج لا التقشف. التقشف يضعف الاقتصاد ويزيد الإحباط، أما زيادة الإنتاج والتصدير فهي الطريق الوحيد لتقليص الدين العام، المطلوب برنامج وطني واضح يُوجّه الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجية (الزراعة، الصناعة، التكنولوجيا، والسياحة العلاجية)، مع مراجعة شاملة لاتفاقيات القروض وشروطها لضمان الاستدامة المالية والسيادية.
4. إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع عبر مصارحة اقتصادية شجاعة. فقدان الثقة أخطر من فقدان المال العام، على الحكومة أن تصارح الأردنيين بالحقائق كاملة: حجم الدين، أين تذهب الأموال، ما الذي تحقق فعلاً، الصراحة لا تُضعف الدولة بل تحصّنها، لأنها تُعيد الثقة بين القيادة والمواطن، وتُحوّل الشعب من مراقب غاضب إلى شريك وطني واعٍ.
5. تحويل الضرائب من عبء إلى أداة تنموية عادلة. يجب أن يُعاد تصميم النظام الضريبي بحيث يُحفّز الإنتاج ويُعاقب الاحتكار، لا العكس، فبدلاً من استهداف جيوب المواطنين والموظفين، ينبغي التوجّه نحو ضريبة عادلة تصاعدية تستهدف الأرباح الكبيرة غير المبرّرة، وتُكافئ من يخلق فرص عمل حقيقية، العدالة الضريبية هي الأساس الذي تُبنى عليه الثقة الوطنية.
6. إطلاق "مبادرة الإحياء الاقتصادي للمشاريع الصغيرة والمتوسطة". تُمنح هذه المشاريع إعفاءات ضريبية لخمس سنوات، وتُخصّص لها نافذة تمويل مرنة بفوائد منخفضة، مع تسهيل الإجراءات البيروقراطية، هذه المشاريع ليست هامشية، بل هي العمود الفقري للاقتصاد الوطني، وتُمثل فرص عمل حقيقية للشباب في المحافظات. فدعمها ليس منّةً بل استثماراً في استقرار الدولة.
7. تبنّي مبدأ العدالة الجغرافية في الإنفاق العام. يجب أن يشعر المواطن في الطفيلة والمفرق والرمثا كما يشعر المواطن في عمان فتوزيع المشاريع التنموية بعدالة يخلق شعوراً بالانتماء ويمنع التفاوت الذي يُولّد الاحتقان، الموازنة العادلة لا تُقاس بالمبالغ، بل بمدى شعور المواطن أن الحكومة تراه وتفكر به وتستثمر في منطقته.
8. إعادة هندسة الجهاز الإداري والبيروقراطي للدولة. نصف العجز المالي في الأردن ليس في المال بل في الكفاءة، لذلك يجب دمج الوزارات المتشابهة، وتخفيض الهياكل البيروقراطية، وتبني الإدارة الرقمية الذكية التي تختصر الوقت والفساد معاً، فموازنة 2026 يجب أن تكون نقطة تحوّل نحو "دولة الكفاءة" لا "دولة الروتين".
9. إعادة صياغة العلاقة مع القطاع الخاص ضمن عقد وطني جديد. الحكومة لا تستطيع أن تُصلح الاقتصاد وحدها، لذلك على دولة جعفر حسان أن تعقد شراكة استراتيجية حقيقية مع القطاع الخاص مبنية على الإنتاج والمسؤولية لا الامتيازات والوساطات، الاستثمار لا يزدهر بالخطب، بل بالثقة، والشفافية، والاستقرار التشريعي.
10. تأسيس مجلس اقتصادي وطني دائم. يضم خبراء من القطاعين العام والخاص، وممثلين عن الجامعات والنقابات، تكون مهمته مراجعة السياسات الاقتصادية بشكل دوري، وتقديم تقارير شفافة إلى الرأي العام ومجلس الأمة، هذا المجلس سيصبح مرجعاً استراتيجياً يربط القرار الاقتصادي بالتخطيط الوطني بعيد المدى..
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
12-11-2025 09:59 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||