10-11-2025 07:28 PM
بقلم : د. مثقال القرالة
أنا من الكرك، من مدينةٍ علّمت أبناءها أن التاريخ ليس فخراً يُروى، بل مسؤولية تُحمل. ومن قلبها أكتب بضمير المواطن الذي يريد لوطنه أن يتقدّم بعقلٍ ناضج لا بعاطفةٍ آنية. أقولها بثقةٍ ومحبةٍ ووعيٍ تامٍ بالمعنى: أنا ضد مشروع التلفريك في محافظة الكرك، لا رفضاً للتنمية، ولا انغلاقاً على التطور، بل لأنني أرى أن التنمية الحقيقية لا تكون بالتكرار، ولا تُقاس بعدد المشاريع المنسوخة من محافظات أخرى، بل بما تمنحه كل منطقة من بصمةٍ خاصة تميّزها وتضيف إلى لوحة الوطن تنوعاً وثراءً وخصوصية. فالكرك ليست محافظةً تحتاج إلى مشروع تلفريك ليُقال إنها دخلت العصر السياحي؛ فهذه المدينة لم تغب عن التاريخ يوماً. قلعتها تقف منذ قرون كأنها حارس الزمن، وجبالها الشامخة تحكي قصة الإنسان الأردني في صموده وشموخه وإرادته. وما تحتاجه الكرك ليس حبلاً معدنياً يمتد فوق الجبال، بل مشروعاً يربط الماضي بالحاضر ويعيد إحياء الذاكرة الوطنية بأسلوبٍ عصريٍ يليق بجلال المكان وقدسيّة التاريخ الذي يحتضنه. فالتلفريك مشروع جميل في عجلون، مناسبٌ لطبيعتها وغاباتها، لكنه يصبح في الكرك فكرةً غريبةً عن هوية الأرض وعن روح المدينة التي تنبض بالحضارة والتراث والبطولة. تكرار التجارب الناجحة لا يعني تكرار النجاح ذاته، بل في أحيانٍ كثيرة يُفرغ النجاح من مضمونه، لأن الإبداع لا يزدهر في بيئةٍ تكرر نفسها، بل في بيئةٍ تخلق اختلافها وتبني تميزها.
حين ننظر إلى خريطة العالم اليوم، نرى أن المدن التي صنعت مكانتها السياحية لم تفعل ذلك من خلال تقليد غيرها، بل عبر تحويل تاريخها إلى تجربة حيّة، وتراثها إلى تكنولوجيا ناطقة، وشوارعها القديمة إلى متاحف مفتوحة تعيش فيها القصة لا تُعرض فقط. في إسبانيا والمغرب وإيطاليا، لم تلجأ المدن العريقة إلى إنشاء تلفريكات تربط بين المرتفعات، بل أنشأت مسارات ثقافية وتاريخية ذكية تجعل الزائر يلمس التاريخ بوسائل رقمية حديثة تعتمد على الواقع المعزز والذكاء الاصطناعي. هذه التجارب لا تُقلّد الطبيعة، بل تُعيد اكتشافها في ضوء العصر، وهذا ما يجب أن نفعله في الكرك. فهذه المدينة تمتلك كل عناصر التحوّل إلى وجهة عالمية للسياحة الثقافية الذكية، شريطة أن نحسن قراءة إمكاناتها ونُحافظ على أصالتها في الوقت نفسه. كما ان الكرك قادرة أن تكون متحفاً حياً للتاريخ الأردني، ومدينة رقمية في عباءةٍ تراثيةٍ أصيلة، إذا أنشأنا مشروعاً يجمع بين عبق الماضي وحداثة الحاضر. يمكن أن تقوم فكرة المشروع على تحويل المنطقة المحيطة بالقلعة إلى فضاءٍ تفاعليٍ يستخدم تقنيات الواقع الافتراضي لعرض معاركها الشهيرة وتاريخها المملوكي والعثماني. يمكن أن تتحول الأسواق القديمة إلى مراكز للفنون والحرف التقليدية التي تمثل هوية الجنوب الأردني، وأن تُدار هذه المرافق بالطاقة الشمسية لتكون نموذجاً للسياحة المستدامة الصديقة للبيئة. يمكن أن تُقام ممرات بانورامية ذكية تُعرّف الزائر على المعالم التاريخية بلغاتٍ متعددة عبر شاشات رقمية، وأن يُفتح المجال أمام الشباب لتطوير تطبيقاتٍ ذكية تُعيد تقديم الكرك للعالم بأسلوبٍ معاصر. هذا هو المشروع الذي يليق بمدينةٍ مثل الكرك، لا مشروع تلفريك عابر لا يحمل معنى يتصل بهويتها أو عمقها التاريخي.
أنا لا أكتب بلسان المعارض، بل بلسان العارف بما يعنيه أن تكون التنمية متجذّرة في روح المكان. فالمشاريع العشوائية قد تملأ الخريطة، لكنها لا تملأ الوجدان، أما المشاريع التي تنبثق من جوهر المنطقة فتخلق ذاكرةً مستدامة، وتجذب الاستثمار الحقيقي الذي يقوم على القيمة الثقافية والبيئية لا على الصدفة أو المظهر. الكرك ليست بحاجة إلى جذبٍ بصري، بل إلى إحياءٍ وجداني يعيدها إلى مركز السرد الوطني الأردني، ويجعلها جزءاً من الحكاية الكبرى التي ترويها المملكة للعالم عن حضارتها واستقرارها وتنوعها الإنساني. أقول هذا لأنني مؤمن أن كل محافظة في الأردن يجب أن تكون مختلفة عن الأخرى، تماماً كما تختلف نبرات الأصوات في الأغنية الوطنية الواحدة. عجلون يمكن أن تتميز بالغابات والتلفريك، والبترا بمعجزة الحجر، والعقبة ببحرها وانفتاحها، وأما الكرك فبمجدها الموثق في ذاكرة الأمة، بتاريخها الذي لا يمكن أن يُعاد إنتاجه ولا استنساخه. لذا، من الظلم أن تُختصر هذه المدينة بمشروع لا يعكس جوهرها. العدالة التنموية لا تعني تكرار الفكرة، بل توزيع الإبداع بعدلٍ بين المحافظات، بحيث تمتلك كل منطقة مشروعها الخاص الذي يروي قصتها للعالم بلغةٍ لا تشبه إلا نفسها.
أنا ضد مشروع التلفريك لأنني مع الكرك، ومع الوطن، ومع التنمية التي تُفكّر قبل أن تُنفّذ، ومع المشاريع التي تبني الإنسان قبل الحجر، وتُعطي للمكان شخصيته قبل أن تزيّنه بالإنارة. ضد التلفريك لأنني أؤمن أن حبّ الوطن لا يكون بالموافقة العمياء، بل بالقول الصادق حين يكون الصدق واجباً. فالتاريخ لن يرحم من خلط بين التكرار والإبداع، ولا من ساوى بين الأصالة والتقليد. الكرك لا تحتاج إلى أن تُشبه غيرها، فهي في حدّ ذاتها معيارٌ للجمال والبقاء والعزيمة، وكل ما تحتاجه هو أن نمنحها مشروعاً يليق بعبقها، ويجعلها كما كانت دائماً: درة الجنوب، وذاكرة الوطن التي لا تصدأ، وصوت الأرض التي علّمتنا أن الانتماء ليس شعاراً بل رؤية.
وفي الختام، لا بدّ أن أرفع أسمى آيات الشكر والعرفان لجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله ورعاه، على اهتمامه الدائم بمحافظة الكرك وأبنائها، وعلى حرصه المستمر على أن تصل التنمية إلى كل شبرٍ من هذا الوطن الغالي. إنني أكتب هذه الكلمات من قلبٍ مخلصٍ للوطن وقيادته، متمنياً أن تصل فكرتي أمام جلالته، وأن تُعرض عليه هذه الرؤية بوصفها اقتراحاً وطنياً صادقاً نابعاً من محبة الكرك وولاء أبنائها. فحين يُنصت جلالة الملك لصوت الكرك، يسمع الوطن كله، وحين تُمنح الكرك فرصةً للتعبير عن ذاتها، فإن الأردن بأسره يزداد قوةً وتميّزاً وبهاءً تحت رايته الهاشمية الخالدة.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
10-11-2025 07:28 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||