06-11-2025 12:38 PM
بقلم : الدكتور علي الصلاحين
لآيات الكريمة من سورة البلد، والتي تقول:
"أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ"، تُعتبر نموذجًا متكاملًا لتصور القرآن لبنية الإنسان النفسية والأخلاقية، إذ تكشف عن منهج فريد في بناء الشخصية الإنسانية. فالإنسان في هذه الرؤية ليس مجرد كائن مادّي يعيش غريزته أو يتبع رغباته، بل هو كيان متوازن يتفاعل فيه الإدراك الحسي مع الوعي القيمي والضمير الأخلاقي، ويستند في كل خطوة إلى هدي الله ورحمته. تبدأ الآيات بالإشارة إلى العينين، وهما أداة المعرفة والإدراك، تمكّنان الإنسان من النظر في آيات الله في الكون وفي ذاته، ومن التأمل في دلائل القدرة الإلهية التي تحيط به من كل جانب. هذه القدرة على الرؤية ليست مجرد وظيفة جسدية، بل هي نقطة الانطلاق نحو الوعي والفهم، وهي ما يهيئ النفس لاستقبال الهداية والإيمان. ثم تأتي الكلمات، اللسان والشفتان، لتكون وسيلة التعبير والتواصل، وقدرًا عظيمًا يمكن الإنسان من التفاعل مع العالم والآخرين، وتحويل ما يدركه من حقائق إلى أفعال وسلوك، فالكلمة أحيانًا تكون سببًا للخير والسمو، وأحيانًا سببًا للضرر والانحراف، وهو ما يؤكد أهمية الوعي الأخلاقي في الاستخدام.
أعظم ما تحمله الآيات هو الإشارة إلى "النجدين"، أي الطريقين الواضحين، طريق الهداية وطريق الضلال، وهو تصوير دقيق للبعد النفسي الحرّ في الإنسان. فالله أودع في النفس استعدادًا متقابلًا للخير والشر، وبيّن للإنسان طريقين يمكنه اختيار أحدهما بحرية، ما يجعل المسؤولية جزءًا جوهريًا من تكوينه. هذه الحرية ليست عبثًا، بل هي أساس تكامل الشخصية، فاختيار الخير يؤدي إلى الفلاح، واختيار الشر إلى الخسران. إن الإنسان بهذا المعنى يعيش صراعًا دائمًا بين نزعات الخير والشر، وهو صراع يختبر إرادته ووعيه وضميره، ويبرز قيمة الاختيار الواعي في بناء الذات.
من خلال هذه المنظومة المتكاملة، يقدم القرآن تصورًا متوازنًا للبناء النفسي والأخلاقي للإنسان، حيث يتكامل الإدراك الحسي مع التعبير والعمل، ويتكامل الوعي مع الفطرة والضمير، فتتشكل شخصية متوازنة قادرة على مواجهة الحياة بمسؤولية ووعي. فالنعم التي منحها الله للإنسان ليست أدوات للهوى، بل وسائل للهداية، والإنسان مسؤول عن استخدامها فيما يرضي خالقه.إن قراءة هذه الآيات في ضوء المنهج النفسي القرآني تجعل الإنسان يرى ذاته مخلوقًا عاقلًا مدركًا، مزوّدًا بالقدرة على التمييز بين الخير والشر، ممتلكًا حرية الاختيار، ومسؤولًا عن كل فعل يقوم به. إن الهدف الأسمى من هذا البناء النفسي ليس مجرد السلوك الصالح، بل تطوير النفس وإدراك قدر النعم الإلهية، والزهد في الغرور، وتحقيق التكامل بين الفكر والشعور والعمل، بما يحقق الغاية العليا من وجود الإنسان: تزكية النفس والفلاح في الدنيا والآخرة. بهذه الطريقة، تقدم الآيات نموذجًا قرانيا للبناء النفسي والروحي للإنسان، مذكّرة بأن النفس البشرية تخلق لتختار، ولتتقن، ولتعمل بما وهبها الله من قدرات، وهو تصور متوازن يعيد للإنسان وعيه بكرامته ومسؤوليته في هذا الكون، ويجعله يعيش في انسجام مع ذاته ومع خالقه، محققًا بذلك الفلاح الحقيقي في حياته.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
06-11-2025 12:38 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||