04-11-2025 10:12 AM
بقلم : نضال منصور
شهد العالم في السنوات الأخيرة طفرة غير مسبوقة في تقنيات توليد الصور والفيديوهات باستخدام الذكاء الاصطناعي، من «ديب فيك» إلى النماذج التوليدية المتقدمة، ولم يعد الفاصل بين الحقيقي والمصطنع بينًا كما كان في السابق؛ بل ظهرت أزمة ثقة بصرية جعلت الناس يشككون حتى في المشاهد الحقيقية. ففي الماضي القريب كان التزوير يحتاج إلى إنتاج معقد وكلفة عالية ومهارة تقنية لا تتأتى إلا للراسخين في التكنولوجيا، بينما أصبح اليوم في متناول أيدي الهواة من خلال أدوات يسهل استخدامها قادرة على توليد مقاطع تبدو واقعية. لذلك انقلب العبء المعرفي؛ فبدل أن يحتاج المزور لأدلة لإقناعنا، باتت الحقيقة نفسها تتطلب قرائن إضافية وجهدًا للتقصي.
لقد تجلت هذه الأزمة في أمثلة لا تحصى، من تصريحات مفبركة لسياسيين ومشاهير تنتشر كالنار في الهشيم وتتفوق على أي تصحيح لاحق؛ وصور لأحداث مزعومة في مناطق النزاع تتداول على أنها آنية ثم يتبين أنها قديمة أو مولدة بالكامل، فتزيد من حالة الاستقطاب وتشوش الذاكرة الجمعية؛ ومواد مركبة لجرائم أو كوارث تستغل للاحتيال أو إثارة الذعر، فتربك الجمهور والمؤسسات على السواء. ويضاعف من حدة المشكلة أننا كبشر نميل عادة إلى الانحياز التأكيدي، فنشارك ما ينسجم مع قناعاتنا حتى لو كان مشكوكًا في صحته، ويترافق هذا مع تصميم خوارزميات منصات التواصل التي تمنح أولوية للمحتوى الصادم والجذاب بصريًا.
لقد أحدثت هذه الظاهرة تداعيات مجتمعية عميقة، أدت إلى تآكل الثقة العامة وأصبح الاتفاق على «الوقائع» نقطة خلاف لا نقطة انطلاق، ومنحت ذريعة إنكار مريحة تتيح للمخطئ والمشكك أن يرفض الأدلة بزعم أنها مزيفة بالذكاء الاصطناعي، كما أن المعلومات المضللة أدت في عديد المناسبات إلى حرف الرأي العام والتأثير في نتائج الانتخابات وعرقلة الاستجابة للأزمات والكوارث.
أمام هذا المشهد، لا يكفي أن نستسلم للريبة الشاملة ولا أن نغرق في سذاجة التصديق والتسليم، فهناك ممارسات عملية تساعدنا على التمييز النسبي بين الحقيقي والمصطنع، عبر التحقق من المصدر الأول ومن سجله التحريري؛ والبحث عن النسخ الأصلية وعدم الاستسلام لرغبة المشاركة المتسرعة لأي محتوى يصلنا.
فالمطلوب تبني ممارسة شك بناء يسأل عن السياق والدليل والمصلحة، وبناء «سلسلة ثقة» عبر عدد محدود من المصادر عالية الموثوقية ومجتمعات تحقق تشاركية، مع الحرص على سرعة التصحيح ونشر بدائل موثقة بصريًا عند تفنيد المقاطع المزيفة.
لم يخلق الذكاء الاصطناعي الكذب، لكنه جعله سهل الإنتاج وعميق الإقناع وسريع الانتشار، واستعادة الحقيقة لزخمها لن تكون بالحنين إلى زمن «ما تراه هو ما حدث»، بل بترسيخ ثقافة تحقق جديدة، وبنية تحتية رقمية داعمة للأصول والتوثيق، وتشريعات واقعية تحمي الجمهور من دون أن تخنق الابتكار، حينها فقط تستعيد الحقيقة مكانتها، لا كصورة ترى فحسب، بل كمنهج يختبر ويثبت.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
04-11-2025 10:12 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||