حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الثلاثاء ,28 أكتوبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 4167

د. دانييلا القرعان تكتب: حكاية رحلة عشق أردنية

د. دانييلا القرعان تكتب: حكاية رحلة عشق أردنية

د. دانييلا القرعان تكتب: حكاية رحلة عشق أردنية

27-10-2025 09:06 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د. دانييلا القرعان
بصفتي فتاةً أردنية نشمية، ورثت من هذه الأرض شيئاً من صلابتها، ومن سمائها شيئاً من صفائها، ومن جبالها شيئاً من كبريائها، وأحمل في صدري طموحاً بسيطاً لا يعرف السكون، وحباً لوطني أكبر من أن يُختصر في كلمات. أحب الأردن كما يُحب القلب دقاته، وكما يعشق العاشق وجه من يحب

من الدرة إلى عقربة، ومن الغور إلى الأجفور، كل ذرة ترابٍ في وطني تهمس باسمي وتقول لي: “هنا تنتمين، وهنا تنبضين.”
ففي صباح خريفيٍّ هادئ، كانت السماء تتهيأ لرحلةٍ جديدة من الغيوم والنجوم، جلست مع نفسي جلسة صدق، وقررت أن أسيح في ربوع بلادي، لأرى الأردن بعينٍ أخرى، لا كخارطةٍ نحفظ حدودها، بل كقلبٍ نخوض دهاليزه بشغفٍ وفخر. وكان القرار، الى الجنوب. ذاك الجنوب الذي تسكنه الأساطير وتنام في أحضانه القصائد. فالجنوب بالنسبة لي ليس اتجاهاً في الجغرافيا، بل اتجاهاً في القلب. ومع انطلاقتي دقّ قلبي على إيقاع عجلات الحافلات والسيارات المتجه إلى الجنوب، كأن نبضي يرافق الطريق. رحلةٌ امتدت وما زالت ثلاث ليالٍ خريفية، برفقة بعض من رفاق العمر، الذين يحلو معهم السفر، ويطول معهم الضحك دون حسابٍ للوقت. كانت الرحلة تمضي، والذاكرة تمتلئ بمشاهدٍ كأنها لوحات معلقة بين السماء والرمل. الصحراء أمامنا، لكن أيّ صحراء هذه؟ ليست قاحلة كما يظن من لم يراها، بل حيةٌ تنبض بالدهشة. صحراء منبسطة كالحلم، يشقها طريق طويل ذو مسارب متعددة، ملتويٍ كخصلات الريح، تتناثر على جانبيه لوحاتٌ إرشادية وإعلانات جميلة تذكّرنا أننا في وطنٍ يعرف كيف يجمع بين الأصالة والحضارة. تحفّنا رعاية الله وتظلّلنا دعوات الأمهات، ويرافقنا في المسير حسن النوايا وابتسامة الرضا.

كانت تستوقفنا بين الحين والآخر دوريات العين الساهرة، نلوّح لها وتلوّح لنا، كأنها تقول لنا: سيروا بأمان، فأنتم في وطنٍ يحرسه رجاله بعيونٍ لا تنام. وفي كل مرةٍ كنت أنظر حولي، لا أدري أي جهةٍ أسحر، أأنظر إلى يمين الطريق أم يساره؟ كل مشهدٍ كان أجمل من الآخر: صخور تحكي تاريخ الإمبراطوريات القديمة، أودية تنبض بالسكينة، وسحبٌ تمضي كأنها تكتب رسالة حب إلى الأرض من علو. هذا الوطن ليس كأي وطن، فهو موطئ أقدام الأنبياء والصحابة، ومسار القوافل التي عبرت التاريخ، وساحة معارك الشرف التي روتها دماء الشهداء. هنا كل حجرٍ يحكي حكاية، وكل رملٍ يحتفظ بأثر، وكل مقامٍ يشهد على عراقةٍ لا تزول. ومع كل محطةٍ نقف فيها، كنت أقول لنفسي: "ما أجملك يا أردن!" نزور البتراء فننبهر بحجارتها التي تخفي في صمتها أناقة النبط، نزور رم فنحلق في فضائها الحر كما يحلق القلب في دعاء، نزور العقبة فتعانقنا مياهها كأمٍ تفتح ذراعيها لأبنائها العائدين. كل شيءٍ في تلك الرحلة كان جميلاً. الوجوه الباسمة، الأغاني الوطنية التي تعلو في السماء كدعاءٍ صادق، الكوفية الحمراء التي تتماوج فوق الرؤوس كأعلامٍ من العزّ والهوية.

كنا نسير من موقعٍ إلى آخر دون أن نعرف التعب، فالبرنامج حافل، لكن البهجة كانت تطغى على كل إرهاق، والفرح يسكن في التفاصيل الصغيرة، ضحكة صديق، كوب قهوة على عجل، نسمةٍ تمرّ من الصحراء فتداعب القلب قبل الوجه. ولم يكن الجنوب وحده هو الجميل، بل الوطن كله كان معنا، تبادلنا الأحاديث والأناشيد.

الوطن لا يُختصر في مكان، بل في إحساسٍ عميق بأنك مهما ابتعدت، لن تجد بديله. الأردن قطعة واحدة من شماله إلى جنوبه، من شرقه إلى غربه، أرضٌ تحتاج أسابيع لا أياماً لتشبع منها العين، ويحتاج العمر كله ليُشبع منها القلب. وأخيراً سنعود إلى مدننا محملين بطاقةٍ إيجابيةٍ تكاد تُشعل فينا نوراً جديداً. كنا ننام ساعاتٍ قليلة، لكن هواء بلادي كان ينعشنا ويوقظنا قبل أن نفوّت مشهداً من الجمال.
كنت أشعر كأنني طائرٌ حلق طويلاً، ثم عاد ليحطّ فوق عشه الذي يعرف رائحته من بين آلاف الأعشاش.
في الختام، حين أودع الجنوب، سأشعر وكأن قلبي يترك شيئاً منه هناك. وسأقول همساً: وداعاً يا مثلثنا الذهبي، يا خزنةَ أنباطنا،. يا رمَّ بداوتنا، يا صيادي عقبتنا، يا بحر ثغرنا الباسم، يا وطن الروح إن ضاقت الدنيا. وسيبقى الله الموفق، ويبقى الأردن نبضاً في القلب، ونجمةً لا تغيب عن سماء العاشقين.











طباعة
  • المشاهدات: 4167
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
27-10-2025 09:06 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل تنجح "إسرائيل" بنزع سلاح حماس كما توعد نتنياهو رغم اتفاق وقف الحرب بغزة؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم