26-10-2025 08:42 AM
بقلم : الصيدلي عدوان قشمر نوفل
منذ اللحظة التي انهارت فيها “الأسطورة الأمنية” على حدود غزة في السابع من تشرين الأول، والجيش الإسرائيلي يعيش حالة ارتباك وجودي غير مسبوقة. فالمؤسسة التي بنت سمعتها على التفوق التقني والاستخباراتي وجدت نفسها عارية أمام حركةٍ كانت تُصنَّف حتى الأمس القريب “كيانًا ضعيفًا محدود القدرات”. المشهد لم يكن مجرد فشل في الميدان، بل انهيار في المفهوم ذاته: المفهوم الأمني الذي قامت عليه دولة إسرائيل منذ تأسيسها. وفي قلب هذا الانهيار، يبرز ما سمّته تل أبيب لسنوات “الجدار الذكي” كمثال صارخ على الوهم التكنولوجي الذي تحوّل إلى فخٍّ قاتل.
كان الجدار بالنسبة للقيادة العسكرية مشروع القرن. خمسة مليارات شيكل خُصصت لبناء “حاجز غير قابل للاختراق”، يمتد فوق الأرض وتحتها، مزود بكاميرات حرارية، وأجهزة استشعار، ومنظومات روبوتية قادرة على “الرؤية والإطلاق الذاتي”. هذه اللغة التي رُوِّجت بها الفكرة كانت كافية لتطمئن الجمهور الإسرائيلي وتغري السياسيين بصفقات الصور. وعندما وقف نتنياهو أمام الكاميرات عام 2021 ليقول: “لن يخترق أحد هذا الجدار”، كانت إسرائيل تصدّق نفسها أكثر مما تصدق الواقع. لم يدرِ أحدٌ أن هذا الجدار نفسه سيصبح بعد عامين فقط بوابة العار التي دخلت منها كتائب النخبة التابعة لحماس لتغيّر تاريخ المنطقة.
الفشل لم يكن في الإسمنت ولا في الحديد، بل في العقل الذي صمّم الفكرة. لقد آمنت إسرائيل بأن التكنولوجيا يمكن أن تحل محل اليقظة البشرية، وأن الكاميرات يمكن أن ترى ما لا تراه العقول. نُزعت الثقة من المقاتل، ووُضعت في الآلة، وتحولت “الحدود الذكية” إلى خيال إلكتروني أغفل أبسط معطيات الواقع. ففي حين كانت أجهزة الاستخبارات تتابع “القدرات التقنية” لحماس، كانت الحركة تطور فهمًا عميقًا لنفسية العدو، تدرس غروره وثقته بنفسه أكثر مما تدرس تضاريس الأرض. بهذا المعنى، كان هجوم السابع من أكتوبر انتصارًا للعقل الإنساني على الوهم التكنولوجي.
التحقيقات التي نشرتها الصحف الإسرائيلية كشفت أن معظم أجهزة المراقبة لم تكن تعمل بكامل طاقتها تلك الليلة، وأن منظومات “الاستشعار الذكي” لم تُحدّث منذ شهور. بل إن فرق المناوبة في بعض النقاط كانت تضم جنديات غير مدرّبات على التعامل مع إنذارات الخطر. ومع ذلك، استمرّت القيادة العسكرية في التباهي بما سمّته “الجدار الذي لا يُقهر”. كان كل شيء يبدو مثاليًا على الورق، لكن الورق لا يقاتل. وفي الميدان، سقطت الأسطورة في دقائق، وسقط معها مئات الجنود والمستوطنين الذين وثقوا في معجزة التقنية.
اللافت أن الفشل لم يوقف الغرور. بعد الهجوم، بدلاً من إعادة التفكير في الأساس العقائدي للمفهوم الأمني، لجأت المؤسسة العسكرية إلى تبريرٍ جديد: “العدو لم يكن متوقعًا”. وكأن وظيفة الاستخبارات ليست التوقع! هذا التبرير وحده كافٍ ليكشف عمق الأزمة الفكرية التي يعيشها الجيش الإسرائيلي اليوم. فبدل أن يتساءل القادة كيف تحوّل الجدار إلى فخّ، انشغلوا بالبحث عن درجات الترقي والجوائز. اللواء عيران أوفير، الذي أشرف على بناء المشروع، طلب بعد المجزرة ترقية إلى رتبة فريق. وعندما رُفض طلبه، قدّمه لاحقًا رئيس الأركان الجديد كـ “تقدير للإنجازات الهندسية”! هكذا تتحول الكارثة إلى وسام، والفشل إلى ميدالية شرف، في بلدٍ يحترف تزوير الوعي الجماعي.
المأساة أعمق من حادث أمني. إنها إعلان موت “عقيدة الردع” التي قامت عليها إسرائيل منذ حرب 1967. تلك العقيدة التي تفترض أن السيطرة المسبقة والتفوق التكنولوجي يمنعان الخصم من التفكير بالمبادرة. لكن ما حدث في غزة ألغى المعادلة: لم تعد القوة قادرة على منع الحرب، بل صارت سببًا لاستدعائها. لقد صدّق الإسرائيليون أن حماس “مردوعة”، بينما كانت حماس تدرس كل فجوة في جدارهم. وهكذا تحوّل الردع إلى خرافة، والجدار إلى شاهد قبر على غطرسة أمةٍ ظنت أن الخطر انتهى حين وُضعت الكاميرا على الحدود.
الدرس الذي يهرب منه الإسرائيليون اليوم هو أن الحرب لا تُدار بالآلات وحدها، بل بالعقول التي تفهم دوافع العدو قبل قدراته. فالمؤسسة الأمنية انشغلت بكمّ الصواريخ لا بفهم العقيدة التي تحرك مطلقيها، راقبت التصريحات لا النوايا، ففقدت القدرة على التنبؤ. وما جرى في غزة لم يكن نتيجة نقصٍ في الموارد أو غفلة آنية، بل ثمرة منطقٍ كاملٍ بنى أمنه على الغرور، وأدار الحرب بعينٍ واحدة ترى نفسها فقط.
في المقابل، تُظهر تصريحات بعض المحللين الإسرائيليين بداية إدراكٍ متأخرٍ لهذه الحقيقة. فقد كتب أرييه إلداد في معاريف أن “السنوات الماضية علمتنا أن فهم تطلعات العدو أهم من رصد مخططاته”. هذه الجملة البسيطة تختصر مأساة المؤسسة الأمنية كلها. فحماس لم تخفِ نواياها يومًا، لكنها استخدمت اللغة التي أراد الإسرائيليون سماعها. كانوا يظنون أن تحسين المعيشة والتصاريح والعمل في إسرائيل كفيلة بتحويل العدو إلى شريك. لكنهم نسوا أن الإيمان بالقضية أقوى من الراتب، وأن الشعوب التي تعيش تحت الاحتلال لا تساوم على كرامتها.
الآن، وبعد كل هذا الخراب، تحاول القيادة السياسية ترميم ما يمكن ترميمه عبر وعود إعادة بناء الجدار وتعزيز الرقابة وتحديث المنظومات. لكن الحقيقة أن “الفشل المفهومي” لا يُرمم بالبراغي والأسلاك، بل بالمراجعة الفكرية العميقة. فالجدار الذكي لم يكن سوى مرآة لغباء استراتيجي، وثقةٍ عمياء بآلةٍ لا تفهم المعنى ولا تدرك الخطر. أما الجدار الحقيقي الذي سقط في السابع من أكتوبر، فكان جدار الخوف الذي كان يحمي الإسرائيليين من مواجهة الحقيقة.
هذه الحقيقة التي لا يريد أحد في تل أبيب الاعتراف بها تقول إن إسرائيل لم تعد تملك امتياز “الأمن المطلق”. فالمعركة التي بدأت في غزة لم تكن بين جيوشٍ متكافئة، بل بين فكرةٍ تحتضر وفكرةٍ تولد من تحت الركام. والجيش الذي بنى جدرانه حول نفسه نسي أن الجدران، مهما كانت ذكية، لا تمنع الأفكار من العبور. لذلك، حين انهار الجدار، لم يكن الحدث العسكري هو الأهم، بل السقوط الرمزي لدولةٍ كانت تعتقد أن الخطر انتهى لأنها لم تعد تراه على الرادار.
بقلم الصيدلة عدوان قشمر نوفل
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-10-2025 08:42 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||