15-10-2025 09:39 AM
بقلم : د. خالد السليمي
اتفاق الهدنة الذي وُقِّع بعد أشهر من القتال والدمار لم يأتِ فجأة، بل هو حصيلة مفاوضاتٍ معقدة شهدت تلاقي أدوار إقليمية ودولية واحتدام ضغوط شعبية وسياسية، منذ البدايات الأولى لتحضير الاتفاق، لعبت دبلوماسية القاهرة والدوحة وأنقرة دور الوسيط، بينما كانت واشنطن بقيادة إدارة دونالد ترامب تُقدّم مقترحاتها السياسية والأمنية وتضغط على شركائها الإقليميين لترجيح كفة الحلّ المؤقت، المشهد وصل ذروته في قمة شرم الشيخ حيث وُقِّع إطار التهدئة بمشاركة دولية، تلتها زيارات وتصريحات نارية داخل الكنيست، هذه الهدنة إنما تُختبر الآن على أرض واقعٍ هش، فهل ستكون خطوة إلى سلام مستدام أم مجرد تهدئة مؤقتة تُجهدها مطالب عربية وفلسطينية لم تُستكمل؟
من البدايات: ديناميكيات التفاوض وإرشادات الوسائط
التحضير للاتفاق انطلق من خطوط ضغطٍ متعدّدة: تحرير الرهائن، فتح ممرات إنسانية، انسحاب جزئي للقوات الإسرائيلية، وتبادل الأسرى، الوساطة المصرية القطرية والتركية نجحت في مراحلٍ متعاقبة في جمع الأطراف على طاولة واحدة، واستطاعت تحويل مطالب إنسانية ضاغطة إلى عناصر تفاوضية قابلة للترتيب، على الضفة الأخرى، لعبت الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب دور المستضيف والضاغط السياسي، مقترحة آليات إشرافية وانتقالية ذات طابع دولي، كل هذه الديناميكيات أظهرت أن الحلّ يحتاج شبكة ضمانات إقليمية ودولية لا بدّ أن تمتدّ إلى مراحل إعادة الإعمار والشرطية المحلية، وإلا ستبقى الهدنة قابلة للانهيار عند أول شرخ أمني.
ترامب في الكنيست: خطاب استعراضي بتداعيات استراتيجية
خطاب الرئيس ترامب أمام الكنيست كان نقطة محورية، فقد جاء مصحوباً بمناوراتٍ شديدة الإظهار السياسي، تلاعب بالكلمات وصياغة سردية "نصرٍ تاريخي" وربط الاتفاق بإنجاز شخصي، تلك العبارات أثارت جدلاً واسعاً داخلياً وخارجياً وفتحت الباب لانتقادات غربية تشير إلى أن الخطة ناقصة جوهرياً من منظور العدالة السياسية، وأنها قد تُحوّل الملف إلى إدارة مؤقتة تخضع لضغوط خارجية، تحرّكات فريقه المصاحبة من لقاءاتٍ مع عائلات الأسرى إلى اجتماعات أمنية مع مراكز صنع القرار الإسرائيلية وضعت واشنطن في قلب صياغة الحل، لكن تركت أسئلة عن استقلالية الضمانات وشرعيتها على المدى الطويل.
نتنياهو وفريقه: توازن بين الضغط الداخلي وإملاءات الحلفاء
تصرفات بنيامين نتنياهو كانت مزيجاً من القبول الظاهري والاحتراز العملي، فهو مرّ بمراحل رفض وتهديد بالعودة إلى الحرب إذا لم تُلبّ بعض المطالب الأمنية، ثم انتقل إلى قبول شروط تبادل محددة مع الحفاظ على "خطوط حمراء" أمنية في غزة، فريقه عمل على الإبقاء على المساحة التنفيذية للقوات الإسرائيلية في مناطق حيوية، بينما اضطر سياسياً لقبول صياغات تقلّل صورة الانتصار الحصري لإسرائيل أمام جمهورٍ دوليٍ متغير، هذا الموقف التوازني يعكس هشاشة الدعم الداخلي مقابل حاجة تل أبيب لغطاءٍ دولي لعمليات إعادة الإعمار وشرعنة محدودة لانسحاب مؤقت.
شرم الشيخ: لِقاء القمّة والضمانات المتعددة
قمة شرم الشيخ كانت المحطة العملية التي جمعت قادة العالم حول إطار هدنة، التوقيع المشترك من قِبَل وسطاء إقليميين وإعلان دعم دولي لإجراءات إنسانية وإعادة إعمار أعطى الاتفاق وزنا سياسياً أكبر، لكنه أيضاً وضع أعباء ترابطية: من حيث تمويل إعادة الإعمار، إلى آليات إشراف دولية (مراقبة، فرق فنية، لجان تنسيق)، نجاح القمة يُقاس اليوم بمدى ترجمة التعهدات إلى عمل فعلي على الأرض، فغياب التنفيذ السريع للوعود المالية والخطوات العملية يعني أن الشرطية المؤقتة والإحلال الإداري قد يترنحان أمام محاولات تقويض أو خروقات أمنية.
ردود الفعل الفلسطينية والإقليمية
حماس أعلنت قبولها لإطار الاتفاق بعد مفاوضاتٍ دقيقة وصيّغت موقفها حول الحاجة لضمانات تبادلية (أسير مقابل أسرى، فتح مطاراتٍ إنسانية، وإشراف دولي على إعادة الإعمار)، في المقابل عاب بعض الفاعلين الفلسطينيين وقطاع من الرأي العام أن الاتفاق لا يمنح دولة أو حلاً سياسياً نهائياً، هو وقف نار يتوجّه لإدارة الأزمة وإعادة الإعمار قبل أي حل سياسي جذري، الدول العربية أيدت الإطار مع فروق في الأولويات: مصر تركز على أمن الحدود، قطر على ملف المساعدات، وتركيا على آليات الإشراف والشرعية الشعبية، هذا المشهد يعكس تعقيد الوصاية على العملية وصعوبة الفصل بين البُعد الإنساني والسياسي.
مؤشرات النجاح والفشل المبكر
حتى 14 نوفمبر 2025، ظهرت إشارات متناقضة: من جهة تنفيذ تبادل أسرى وتهدئة خططية ودفعات مساعدات إنسانية، ومن جهة أخرى تقارير عن خروقات محلية، توتر على "الخط الأصفر" في بعض المناطق، وتذبذب في التزامات تمويلية مُعلنة، تصريحات قائد إسرائيلي عن "إرجاع الوضع إلى ما كان عليه" وتقارير استخبارات عن اختبارات طائرات مسيرة قريبة من الحدود تُعدُّ مؤشرات تهديد، بينما كلام دبلوماسي عن "فرصة تاريخية" يُعبّر عن أمل دولي في تثبيت الهدنة، الخلاصة: الهدنة قائمة ولكنها هشة، وتتطلب تنفيذاً سريعا ومؤسسات ضمان قوية لتفادي تكرار دورة العنف.
السيناريوهات المستقبلية المتوقعة
السيناريو الأول: تثبيت هدنة تمتد وتحول إلى وقف طويل مع ضمانات دولية
الوصف: النجاح في تحويل الهدنة إلى وقف طويل الأمد عبر لجان رقابة متعددة، تمويل دولي لإعادة الإعمار، وآليات أمنية متفق عليها (قوات محلية مُدربة تحت إشراف دولي لوقت انتقالي).
التحليل: يتحقق ذلك إذا التزمت واشنطن والأمم المتحدة والوسطاء الإقليميين بتقديم موارد مالية وتقنية وربطت هذه الموارد بشروط شفافة قابلة للقياس، مع شراكة واضحة مع السلطة الفلسطينية لتعزيز الشرعية المحلية، مثال: برامج إعادة الإعمار المدعومة من قمة شرم الشيخ تتحوّل إلى برامج تترافق مع إطلاق سراح دفعات أسرى إضافية وإعادة فتح موانئ إنسانية تدريجياً.
العائق الرئيسي: رفض أحزاب إسرائيلية متطرفة وأحكام سياسية داخلية في تل أبيب قد تعيد الكرة للعنف.
السيناريو الثاني: هدنة مؤقتة تنهار لصعود خروقات وإعادة تصعيد محدود
الوصف: استمرار الهدنة لأشهر قليلة ثم تزايد الحوادث الأمنية المحلية (اشتباكات عند نقاط التفتيش، هجمات بطائرات مسيّرة، ردود عسكرية إسرائيلية محدودة) تؤدي إلى إعادة اشتعال جزئي.
التحليل: هذا السيناريو مرجح إذا بقيت آليات الضمان ضعيفة وتمويل إعادة الإعمار بطيئاً، أو إذا استمرت الإجراءات الإسرائيلية التي تُشعر حركة حماس والشارع الفلسطيني بأن الهدنة تُستخدم لفرض واقع يفتقد العدالة السياسية.
مثال حقيقي: تهديدات نتنياهو المتكررة سابقاً بعودة الحرب إذا لم تُفرَج دفعات أسرى، ما يخلق مناخ خوف من الانهيار، تحتاج تفادياً لذلك خطة تنفيذية سريعة ومراقبة فنية على الأرض.
السيناريو الثالث: تبدّل إقليمي يؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات وسياسات الضبط
الوصف: تغيير في موازين التحالفات الإقليمية أو ضغوط أميركية/أوروبية تغير حسابات إسرائيل وإعادة صياغة الشروط، ما يؤدي إلى اتفاقات أوسع أو بدائل إدارية (مثل إدارة دولية مؤقتة أو إشراك فاعلين جدد).
التحليل: يتحقق إذا توسعت المشاركة الدولية عبر مؤسسات متعددة (بما فيها أوروبية وروسية) وضُمّت آليات قانونية لمساءلة الانتهاكات، أو إذا شهدنا انتكاسة داخلية إسرائيلية (تغيير حكومي) تُسهِم في تيسير تسويات سياسية أوسع.
المقترحات: هيئة إشراف دولية تشبه نماذج انتداب مؤقتة لكن بآليات مراقبة صارمة تحمل فرصاً وإخطاراً كبيراً من ناحية السيادة والرفض المحلي.
الخاتمة فرصة هشة ومسؤولية تاريخية
اتفاق الهدنة بين حماس وإسرائيل حتى الآن هو لحظة مفصلية، تُتيح فرصة نادرة لإيقاف دورة العنف وإنقاذ ما تبقّى من بنى تحتية وإنسانية، لكنه في الوقت نفسه هشّ، يعتمد على التزام دولي فعّال، وضمانات سياسية داخلية في تل أبيب، وشرعية فلسطينية موسّعة تُقرّها فصائل ومؤسسات، السردية النهائية ستُكتب خلال الشهور القليلة القادمة: إما استغلال الفرصة لبناء هدنة تتحول إلى مسار سياسي واضح، أو العودة إلى دوامة عنف جديدة تُعيد المنطقة سنوات إلى الوراء، القرار الآن بيد صانعي القرار الإقليميين والدوليين، والكرة في ملعب التنفيذ والضمانات.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
15-10-2025 09:39 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |