13-10-2025 04:20 PM
بقلم : أ.د غازي الرقيبات
ثمّة مبادراتٌ تُولد من رحم النوايا الطيبة، لكنها سرعان ما تصطدم بجمود الذاكرة الاجتماعية، فالمجتمع لا يتغيّر حين يُطلَب منه أن يتغيّر، بل حين يشعر بأنّ ما اعتاده لم يعُد يُشبِهه، ومبادرة وزارة الداخلية الأخيرة – تلك التي دعت إلى تقليص زمن العزاء، وتخفيف المهور، وتقنين الجاهات، وإبعاد السياسيين عن ترؤسها – تبدو كأنها تحاول أن تُخاطب الوعي بلغة العقل، في حين لا يزال المجتمع يسمع بالعاطفة وحدها، يبدو أن المبادرة أرادت أن تُهذّب لا أن تُغيّر، أن تُخفّف لا أن تُقصي، لكنّها نسيت أن التقاليد حين تتكلّس، تُصبح أكثر عنادًا من الأفكار، وأثقل على التعديل من القوانين ذاتها، فبيوت العزاء ليست مجرّد طقوس حزن، بل مؤسسات وجدانية تُنظّم علاقة الجماعة بالفقيد، وحين يُقال إن يوماً واحداً يكفي، فإنّ المجتمع يسمعها على نحوٍ آخر: كأن الحكومة تطلب منه أن يُقصر شعوره، او أن يُختزل حزنه، او أن يُعقِّل ما لا يُعقَّل.
العزاء في العرف والمفهوم العشائري ليس مناسبةً للبكاء، بل مساحةٌ رمزية لإظهار التضامن، ولعلّ اختصاره بيوم واحد يبدو في نظر كثيرين، كاختصارٍ للوفاء ذاته، فكيف يُقاس الصدق بالوقت؟ وكيف يُختصر الحضور في جدولٍ إداري؟ وحين تمسّ المبادرة موائد الفرح، وتدعو إلى تقليل المهور والولائم، فإنها تمسّ أوتاراً حسّاسة في بنية الكرامة العشائرية، فالكرم هنا ليس مجرّد سلوكٍ اجتماعي، بل إعلانُ وجود، وصيغةٌ رمزية للوجاهة والاعتبار، إنه – في وعي المجتمع – شكل من أشكال البقاء المعنوي، ولهذا، حين يُطلب من العائلة أن تقتصد في الوليمة، فإنها لا تسمع النداء الاقتصادي، بل تسمع ما هو أعمق: كأنها تُطالَب بأن تتنازل عن جزءٍ من كرامتها المتوارثة، ولعلّ المأساة أن القيم التي بدأت يوماً كفضائل – الكرم، الفزعة، الجاهة –تحوّلت مع الزمن إلى عبءٍ رمزيّ، لكن أحداً لا يجرؤ على الاعتراف بذلك علناً، لأنّ الكلفة الأخلاقية للاعتراف أثقل من الكلفة المادية للعادة نفسها.
وحين تتحدّث المبادرة عن تحديد أعداد الجاهات ومنع السياسيين من ترؤسها،
فإنها تمسّ آخر معاقل "الهيبة" في مجتمعٍ فقد تماسك رموزه، فالجاهة لم تعد مجرّد وساطة أو وجهٍ عشائريّ، بل اصبحت مسرحاً يعرض فيه الناس ذواتهم اجتماعيا، طقساً لتأكيد أن النظام الاجتماعي لا يزال قائماً ولو على الأطلال، اما إبعاد السياسيين عنها قد يبدو في ظاهره عودةً إلى النقاء العشائري، لكنّه في العمق نزعٌ لآخر خيوط التمازج بين السلطة والمجتمع، وما دامت السلطة نفسها ما زالت تُستمدّ من الرمز أكثر من الفعل، فإنّ تفكيك هذا الارتباط قد يُشعر المجتمع بالفراغ أكثر مما يُشعره بالإصلاح، تبدو المبادرة، في بعدها النظري، كمن يضع مرآةً أمام وجهٍ متعب ليذكّره بما كان عليه يوماً، لكنّ المرايا، مهما صدقت، لا تُقنع الوجوه بأن تتغيّر، فالناس لا يتخلّون عن عاداتهم لأنّها مُكلفة، بل لأنّها تفقد معناها، لهذا يبدو مستقبل المبادرة غامضًا، لا لخللٍ في منطقها، بل لغياب الأرض التي تنبت فيها، فالإصلاح القيمي في عرف مجتمعٍ عشائريّ لا يبدأ من قرارات ادارية، بل من رموز ووجهاء المجتمع ، وما لم تُقنع الرموزُ الناسَ، سيبقى التغيير حبيس الورق، كضوءٍ جميلٍ لا يلامس الأرض.
اذا المشكلة ليست أن الحكومة تُحاول إصلاح العادات، بل في أنها تفعل ذلك بمعزلٍ عن الفلسفة التي أنجبت تلك العادات، فمن دون فهمٍ عميقٍ لبنية الوجدان الاجتماعي،
سيبقى كل مشروع إصلاحيّ يذكّرنا بما قاله أحد المفكرين: "لا شيء يُخيف العادة أكثر من التغيير، ولا شيء يُخيف التغيير أكثر من العادة"، قد تُثمر المبادرة وعياً في بعض المدن، وقد تجد صدى في الخطاب الإعلامي، لكنّها في العمق تستطدم بحصونٍ من الوجدان يصعب اقتحامها،
لأنّ ما يُراد إصلاحه هنا ليس سلوكا، بل ذاكرة، وعليه فان ما بين الفكرة والوجدان... ثمة جدار من التاريخ لا يُهدم بقرار اداري.
أ.د غازي عبدالمجيد الرقيبات
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
13-10-2025 04:20 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |