12-10-2025 12:34 PM
بقلم : د. خالد السليمي
سيُسجل التاريخ أن العاشر من أكتوبر 2025 لم يكن يوماً عادياً في سجل الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، بل منعطفاً مفصلياً في الوعي الإقليمي والسياسي للمنطقة، ففي الوقت الذي خيّم فيه الصمت على سماء غزة بعد عامين من أزيز الطائرات وصوت الانفجارات، بدأت تل أبيب تغلي على وقع صراعٍ داخلي أشدّ من نار الحرب ذاتها، انتهت المعركة على الأرض، لكنّ معركة الحقيقة بدأت في الداخل الإسرائيلي، حيث لم يعد العدو خارجياً، بل من داخل المنظومة نفسها التي فشلت في إدارة الحرب والسياسة معاً.
في غزة، ارتفع الأذان بدل صفارات الإنذار، وخرج الناس إلى الشوارع كأنهم يعيدون تعريف الحياة من جديد، وجوه شاحبة لكنها مرفوعة الرأس، وأطفال يلعبون بين الركام كأنهم يصنعون المستقبل من أنقاض الحاضر، هذا المشهد، الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية، كان أبلغ من كل البيانات السياسية، "الناس هنا لم ينتصروا بالأسلحة، بل بالإصرار والثبات والصبر والحمد"، كما قالت مراسلة قناة BBC وهي تصف لحظة الهدوء الأولى في حي الشجاعية، غزة اليوم ليست مدينة مدمّرة، بل رمزاً عالمياً للإرادة البشرية التي ترفض الاستسلام حتى لو انهار كل شيء من حولها.
أما في تل أبيب، فقد دوّت الانفجارات من نوعٍ آخر، انفجارات سياسية وإعلامية كشفت هشاشة الداخل الإسرائيلي بعد وقف النار، جلسة الكنيست تحوّلت إلى ساحة تراشق بالاتهامات بين أركان اليمين المتطرف والمعارضة، والاتهامات طالت الجميع: الحكومة، الجيش، وأجهزة الاستخبارات، صحيفة يديعوت أحرونوت عنونت صفحتها الأولى بـ: "من سيحاسب من؟"، فيما وصفت هآرتس ما يجري بأنه "زلزال سياسي لم تشهده إسرائيل منذ 1973"، بدا واضحاً أن "إسرائيل المنتصرة دائماًً" سقطت هذه المرة في فخ صورتها أمام نفسها.
الجيش الإسرائيلي، الذي كان يوصف بأنه "الأكثر كفاءة في الشرق الأوسط"، يعيش اليوم أزمة ثقة حقيقية، تحقيقات داخلية سرّبتها قناة كان 11 كشفت أن أعداد القتلى بين صفوف الجنود كانت أعلى بثلاثة أضعاف مما أُعلن رسمياً، تقارير أخرى تحدّثت عن وحدات تُركت دون إمدادات لأيام لأسباب سياسية، وعن قرارات عسكرية وُقّعت في مكتب نتنياهو لا في غرفة العمليات، أحد الضباط المسرّحين قال في تسجيلٍ مسرّب: "لم نُهزم في غزة... بل خُدعنا في تل أبيب"، هكذا تحوّلت الهزيمة من ساحة المعركة إلى ساحة الوعي الإسرائيلي ذاته.
وفي الوقت الذي تحاول فيه واشنطن ولندن وباريس إنقاذ ما تبقى من صورة الحليف الإسرائيلي، تتغير معادلات القوة في المنطقة بسرعة، فالعالم يشاهد غزة كقصة إنسانية ملهمة تتجاوز حدود السياسة، الأوروبيون يتحدثون عن "النصر المعنوي للفلسطينيين"، بينما يشبّه محللون أمريكيون ما يحدث في إسرائيل بـ "الربيع العبري"، إذ بدأ الشارع يطالب بالمساءلة، ويهتف ضد الفساد السياسي والعسكري الذي أضاع أرواح جنوده سدى، انتهت الحرب خارج الحدود... لكنها اشتعلت في عمق البيت الإسرائيلي.
إن ما جرى لا يمكن اختزاله في اتفاق تهدئة أو انسحاب قوات، إنها ولادة جديدة لمعادلة الصراع، إذ خرجت غزة من تحت الأنقاض أكثر تماسكاً وعنفواناً، بينما غرقت تل أبيب في مستنقعٍ من الانقسامات والاتهامات المتبادلة، وكما كتب الصحفي الراحل روبرت فيسك: "حين تفقد الدول قدرتها على الكذب، تبدأ مرحلة سقوطها الحقيقي"، واليوم، تفقد إسرائيل تلك القدرة تدريجياً أمام مرآة الواقع، توقفت الحرب في غزة... لكنّها اندلعت في تل أبيب، وستبقى مشتعلة حتى يُحاسَب من أشعلها.
في غزة، لا يُقاس الصمود بعدد الأيام، بل بعدد المرات التي نهض فيها الناس من تحت الركام وهم يبتسمون، هناك، تعلم العالم أن الإنسان يمكن أن يُحاصر في خبزه ودوائه، لكن لا أحد يستطيع أن يحاصر إيمانه وكرامته، خسروا البيوت والأبناء والأحلام، لكنهم لم يخسروا اليقين بأن الله لا يترك من تمسك بالأرض والحق، في غزة، يُولد الأطفال على وقع القصف، لكنهم يكبرون على لحن النشيد الوطني، وتُشيّع الأمهات أبناءهن وهنّ يرددن "الحمد لله الذي اختارهم شهداء"، إنها ليست مدينةً تُقصف، بل مدرسة للأمم في معنى البقاء رغم الفناء، فحين تنكسر المدن، تبقى غزة واقفة كآيةٍ من الصبر، تُعلّم البشرية أن الكرامة أقوى من الجوع، وأن من يمتلك إرادة الحياة لا يُهزم مهما اشتدّ الحصار.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
12-10-2025 12:34 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |