حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الثلاثاء ,30 سبتمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 5330

د.عاصم منصور يكتب: "بانوبتيكون" رقمي

د.عاصم منصور يكتب: "بانوبتيكون" رقمي

د.عاصم منصور يكتب: "بانوبتيكون" رقمي

30-09-2025 09:26 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د.عاصم منصور
انقسم الرأي العام في الأردن قبل أيام حول قضية توقيع التلفزيون عقدًا اعتبرهُ البعض مبالغًا فيه مع أحد الفنانين المحليّين. ولستُ هنا بصددِ مناقشة تفاصيل تلك القضية؛ لكن ما استوقفني كان اضطرار أحدُ الشّخصيات العامة إلى سحبِ تعليق كتبَه على "فيسبوك" أبدى فيه دعمَه للفنانِ وانتقدَ مُنتقديه، وذلك تحتَ ضغطٍ الحملات الشَّعبية والتعليقات اللّاذعة على مواقعِ التواصل، ولستُ هنا في وارد محاكمة أسلوبِ ولا مضمون ما كتبه الأخير؛ لكن هذه الحادثة تكشِفُ لنا جانِبا أعمق من عالمِ الإعلامِ الجديد: كيف تتحكم الجماهير فيما نكتب ونبوح به، وكيف تتحول شبكات التواصل إلى ساحاتِ مُراقبة وضبط ذاتي لا تقل شِدّة أحيانا عن القوانينِ واللّوائحِ الرّسمية.


فالسؤالُ الأوسعُ هنا: هل يُمكننا حقا أن نعرف اراء الناس وهوياتهم السياسية أو الثقافية أو الأيديولوجية من خلال ما ينشروه على مواقع التواصل؟ أم أنّ ما يُكتب على هذه المنصّات ليس سوى واجهة مدروسة، لا تعكس بالضرورة ما في دواخلهم؟
الحقيقةُ أنّ ما نراه على مواقع التّواصل ليس انعكاسًا حقيقيا وكاملاً للذّات؛ بل هو صورةً مُنتقاة، يحكمها ما يرغبُ الإنسانُ في قوله وما يسمحُ به السياقُ العام. أي أنّ ما يظهرُ لنا ليس سوى جزءٌ صغير من الحقيقة؛ وربما أكثرُ أمانًا وتجميلًا من الواقع.
هذه الصورةُ لا ينفرد الفردُ بصناعتِها؛ بل تحكمُها آليّات الرقابة، وهنا تبرزُ أهمية ما قاله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة" مستعيرًا من الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بينثام فكرة "البانوبتيكون" وهو تصميم لسجنٌ دائري يحتوي على برجٌ مركزي للمراقبة يمكن الحارس من رؤية جميع السّجناء؛ بينما لا يعرف هؤلاء إنْ كانوا مُراقبين أم لا، والنتيجة أن يقوم السّجين بضبط نفسه بنفسه طوال الوقت.
لقد توسّع فوكو في هذا النموذج ليقول إنّ المجتمعاتَ الحديثةّ تُدار عبر هذا الشعور المُستمر بالمُراقبة؛ حيث يغدو الفرد رقيبًا على ذاتِه؛ يخشى الانحراف عن المسموح. واليوم تُقدّم لنا شبكاتُ التواصل نموذجًا من المراقبة أقرب ما يكون إلى "بانوبتيكون" رقميّ؛ فالجُمهورُ هناك متحفّز، حيث يقرأ ويعلِّق ويحاكم ويكافئ أو يعاقب بالكلمة والصورة. وهذا الحارس الجماعي قد لا نراه؛ لكن أثره واضح في خوفنا الدّائم من أنْ يُصبح ما ننشره عِبئًا علينا، فننأى بأنفُسنا عن الخوض في الكثير من القضايا الشائكة والحساسة وقد نضطر أحيانًا إلى حذفِ بعض ما ننشر والانسحاب بصمت.
ومع ذلك، تتباين صرامة هذه الرقابة بين شخص واخر؛ حيث تكون على أشدها بالنسبة للشخصيّاتِ العامة وأصحاب المناصبِ أو الطامحين بها، فهؤلاء يُظهرون حذرًا أكبر لأنّ أيْ كلمة زائدة قد تتحوّل إلى أزمةٍ أو إلى سلاحٍ في أيدي خُصومِهم؛ فكلّما ازدادت مكانةُ الفردِ الاجتماعيةِ أو السياسيّةِ ازدادتْ الرقابة التي تفرضُها عليهْ عُيون المُتابعين، وأصبح كلامُه مَحكومًا بالخوفِ من التأويلِ والخسائرِ المحتملة.
وهكذا، لا يُمكن القول إنَ المنشورات التي نقرأها لا تكشفُ بالكاملِ عن هويّة أصحابها، فهي تخضعُ لمعادلةٍ دقيقة: الرَغبةُ في التعبير مُقابلَ كُلفة الخسارة. إنها "البانوبتيكون" الرقميّ في أوضحِ صورة، حيث نلتزمُ طَوعًا بالخطوطِ الحمراء، ونقدِّم أنفُسنا كنُسخة منقّحة تُناسِب العين التي تُراقبنا.
يظلّ الإنسانُ أعمقَ من سطرٍ على شاشة، وأكبرَ من تغريدةٍ عابرة، وربما يكون تذكير أنفسنا بهذه الحقيقة ضرورة في زمنٍ أصبحت فيه الكلمات الرقميّة تُقرأ كملفاتٍ شخصية، بينما تظل الأفكارُ والنّوايا أكثر تقيدًا مما يَظهرُ في الفضاءِ الأزرق.











طباعة
  • المشاهدات: 5330
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
30-09-2025 09:26 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
ما مدى رضاكم عن أداء وزارة الاتصال الحكومي بقيادة الوزير محمد المومني؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم