27-09-2025 09:40 AM
بقلم : زياد فرحان المجالي
حين يفضح المشهد صاحبه
في السياسة، يمكن للكلمات أن تُزيَّن وتُرتَّب، لكن الصور نادرًا ما تكذب. الصورة التي التقطتها عدسات الصحافة العالمية هذا العام من قاعة الأمم المتحدة تكثّف المشهد كله: بنيامين نتنياهو واقف على المنبر، يلوّح بيديه ويرفع صوته، بينما المقاعد أمامه فارغة بعد أن غادرها ممثلو دول عربية وأوروبية احتجاجًا على سياسات إسرائيل في غزة. بدا وكأنه يخاطب الفراغ أكثر مما يخاطب العالم.
لم يكن ذلك مجرد تفصيل بروتوكولي؛ بل رمز لعزلة دبلوماسية تتسع، وفضيحة سياسية تُترجم بالصورة. نتنياهو أراد أن يظهر بمظهر القائد الذي يتحدّى العالم، فإذا بالمشهد يفضح عجزه عن إقناع حتى جمهور القاعة الأممية.
مكبرات الصوت: بروباغندا على تخوم غزة
في موازاة خطابه في نيويورك، حاول نتنياهو أن يضيف “عنصرًا مسرحيًا” جديدًا. فأمر بنصب مكبرات صوت عملاقة على الحدود مع غزة لبث كلمته مباشرة إلى سكان القطاع. الخطوة وُصفت في الصحافة العبرية بأنها أقرب إلى استعراض دعائي منها إلى مبادرة سياسية.
بحسب يديعوت أحرونوت، أوقف الجيش عملياته شمال غزة لساعات لتسهيل عملية نصب المكبرات. لكن ضباطًا كبارًا تحفّظوا على الأوامر: "لن نعرّض الجنود للخطر من أجل دعاية سياسية". رغم ذلك، التُقطت صور الشاحنات العسكرية محمّلة بالمعدات الصوتية، واقفة عند تخوم القطاع، وبعضها تقدّم بضعة أمتار إلى الداخل.
الرسالة التي أراد نتنياهو إيصالها كانت مزدوجة: أن صوته يسمعه العالم من نيويورك، ويسمعه الفلسطينيون من غزة. لكن النتيجة جاءت عكسية: الخطوة بدت كاستعراض يائس لرجل لا يملك سوى الضجيج ليغطي به فراغ السياسة.
الأسرى: الصوت الذي يضاعف الألم
قضية الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة ألقت بظلالها الثقيلة على الخطاب. عائلات الأسرى التي تتابع كل كلمة صادرة عن نتنياهو، اعتبرت أن بث الخطاب إلى غزة "تعذيب نفسي جديد".
إحدى زوجات الأسرى كتبت عبر منصة X:
> "لو كان الصوت يصل إلى غزة، لفضّلنا أن تصل رسالة حب منا إلى أبنائنا، لا أن يسمعوا خطابات بلا جدوى".
بالنسبة لهذه العائلات، لم يكن الخطاب سوى جرح جديد: بدل أن يستخدم نتنياهو منبر الأمم المتحدة للإعلان عن تقدم في المفاوضات أو خارطة طريق لإعادتهم، اكتفى بالحديث عن "صمود إسرائيل" و"حقها في الدفاع عن نفسها". هكذا تحوّل صوت المكبرات إلى رمزٍ للتجاهل بدل أن يكون أداة أمل.
الداخل الإسرائيلي: مأزق مضاعف
في الداخل، لم يُقرأ الخطاب كإنجاز دبلوماسي. الحركات الاحتجاجية مثل "أمهات مستيقظات" شنّت هجومًا لاذعًا على نتنياهو، معتبرة أن استغلال الجيش في خدمة الدعاية "خيانة لدماء الجنود".
في تل أبيب، لم يكن الناس يتحدثون عن مضمون الخطاب بقدر ما كانوا يتداولون صورة الكراسي الفارغة. بالنسبة لمنتقديه، ظهر نتنياهو كسياسي يعيش في مسرح شخصي: يرفع صوته في نيويورك، بينما يتجاهل صرخات عائلات الأسرى في شوارع إسرائيل.
صحف عبرية مثل هآرتس رأت أن الخطاب كشف مأزق الحكومة: "رئيس وزراء يقاتل بالعلاقات العامة لأنه لم يعد قادرًا على تقديم إنجاز سياسي أو عسكري".
القاعة الأممية: مشهد العزلة في أبهى صوره
ما ميّز خطاب هذا العام لم يكن الكلمات بحد ذاتها، بل رد فعل الحضور. وفود عربية وأوروبية انسحبت مع بدء الكلمة، تاركة صفوفًا من المقاعد الخالية. بدا نتنياهو كمن يخاطب جمهورًا غير موجود.
رويترز وصفت المشهد بأنه "ترجمة بصرية لعزلة إسرائيل".
الغارديان اعتبرت مكبرات الصوت "عرضًا يائسًا لا يقنع أحدًا".
واشنطن بوست أشارت إلى أن الانسحابات من القاعة كانت أبلغ من أي رد لفظي: "الصمت أحيانًا أبلغ من الجدل"
هكذا، تحوّل الخطاب من محاولة لتثبيت حضور إسرائيل على الساحة الدولية إلى مرآة تُظهر فقدانها لهذا الحضور.
البعد العربي: رسائل مقلوبة
في الإعلام العربي، قُرئت الكلمة بوصفها انعكاسًا لمأزق سياسي عميق.
في الأردن، جرى التركيز على أن صورة الكراسي الفارغة تعكس سقوط مشروع الضم والسيادة الذي روّجت له حكومة نتنياهو.
في مصر، رُبط الخطاب بحالة العجز السياسي الإسرائيلي: "حكومة فقدت القدرة على الحسم عسكريًا أو تفاوضيًا، فلجأت إلى رفع الصوت".
في الخليج، أشارت مقالات الرأي إلى أن مكبرات الصوت لم تُسمع الفلسطينيين بقدر ما كشفت عن عجز إسرائيل عن مخاطبة العالم بلغة مقنعة.
صحيفة عربية كتبت: "زعيم يخاطب كراسي فارغة في نيويورك، ويقصف غزة بمكبرات صوت، هو ذاته الذي فقد القدرة على مخاطبة شعبه أو إقناع حلفائه".
الخلفية الدولية: سياق عزلة متصاعدة
لا يمكن فصل خطاب نتنياهو عن السياق الدولي الراهن.
خلال الأشهر الأخيرة، اعترفت دول أوروبية كبرى بدولة فلسطين، ما اعتُبر تحولًا تاريخيًا في الموقف الغربي.
الاتحاد الأوروبي وجّه انتقادات حادة لإسرائيل بسبب توسيع المستوطنات ورفض وقف إطلاق النار.
حتى داخل الولايات المتحدة، أصوات في الكونغرس بدأت تضغط على الإدارة الأميركية لتقليص الدعم غير المشروط لإسرائيل.
خطاب نتنياهو جاء إذن في لحظة انكشاف دبلوماسي: لم يعد الرجل يتحدث إلى قاعة مصغية، بل إلى عالم بدأ يغير معادلاته تدريجيًا.
التاريخ يكرر نفسه: من استعراض إلى آخر
منذ سنوات، اعتاد نتنياهو على استخدام المنابر الدولية كمسارح للاستعراض: في ٢٠١٢ رفع لوحة عن النووي الإيراني، في ٢٠٢٣ لوّح بخريطة "إسرائيل الكبرى"، واليوم في ٢٠٢٥ جرّب مكبرات الصوت ليبث خطابه إلى غزة.
لكن الفارق أن الاستعراضات السابقة كانت تجد جمهورًا ينصت، بينما هذه المرة وجد نفسه أمام قاعة شبه خالية. الرمز أوضح من أي كلمة: العالم لم يعد يشتري بضائع نتنياهو السياسية.
حين يفضح الصمت الضجيج
خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة هذا العام لن يُذكر بمضمونه، بل بصوره:
قاعة شبه فارغة.
مكبرات صوت تبث كلمات بلا معنى إلى غزة.
عائلات أسرى تصرخ في تل أبيب.
وسائل إعلام تصف المشهد بأنه "عرض بلا جمهور".
لقد أراد نتنياهو أن يثبت أنه ما زال القائد الذي يفرض صوته على العالم، فإذا بالعالم يشيح بوجهه عنه. أراد أن يُبهر نيويورك ويقهر غزة، فإذا به يثير سخرية الداخل واحتجاج الخارج.
إنها لحظة تكثّف حقيقة إسرائيل اليوم: دولة ترفع صوتها، لكن خطابها يفقد جمهوره في الداخل والخارج معًا.
والدرس البليغ: حين يغيب المعنى، لا ينفع الصوت مهما علا، وحين تنفضّ القاعة عنك، فإنك لا تخاطب إلا نفسك.
---
المصادر
يديعوت أحرونوت – تفاصيل أوامر نصب المكبرات.
إسرائيل هيوم – متابعة لموقف مكتب نتنياهو.
رويترز – تغطية الخطاب وردود الفعل.
The Guardian – تقرير عن البث الصوتي لغزة.
Washington Post – قراءة في الانسحابات.
تصريحات عائلات الأسرى عبر منصة X.
صحف عربية: الأهرام، الرأي اليوم.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
27-09-2025 09:40 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |