04-09-2025 10:21 AM
سرايا - صدر عن دار الخليج للنشر والتوزيع حديثًا كتاب جديد للباحثة والناقدة الدكتورة إنعام القيسي بعنوان «جماليات السرد النسوي في رحلة ابن بطوطة»، وهو دراسة نقدية معمّقة تُعيد قراءة واحد من أهم نصوص الرحلة في التراث العربي من زاوية مختلفة كليًا، إذ تسعى الكاتبة إلى الكشف عن الحضور النسوي في هذا النص الرحلي الكبير، وعن الأبعاد الجمالية والفكرية التي ينطوي عليها.
الكتاب لا يتعامل مع رحلة ابن بطوطة بوصفها مجرّد سجل تاريخي أو وثيقة جغرافية، بل يقرأها كنص أدبي متكامل، تتقاطع فيه عناصر السرد مع مخيلة كاتبها لتشكيل صورة المرأة في أبعادها المختلفة. فالمرأة في هذا النص ليست مجرد كائن مروي عنه، بل هي فاعل جمالي وموضوع للتخييل، تظهر في صورة الأم والجارية، والفارسة المقاتلة، كما تحضر في شؤون الدولة والمجتمع، وتطل كرمز للجمال والعفاف، بل وتتجلى أيضًا في فضاءات الأسطورة والعجائب، حيث تختلط الدهشة بالخيال.
وترى القيسي أن هذه الصور المتعددة لا تنفصل عن السياق الثقافي والاجتماعي والديني لعصر ابن بطوطة، وإنما تعبّر عن مرجعيات شكلت وعي ذلك العصر بالمرأة، وموقعها في المجتمع والنص معًا. ومن هنا، فإن قيمة الكتاب تكمن في أنه لا يكتفي بتجميع هذه الصور، بل يذهب أبعد من ذلك ليفكك البنية الفنية للنص، محللًا أدوات السرد والوصف والزمن وبناء الشخصيات، وكيف أسهمت هذه العناصر في رسم لوحة سردية كبرى تتقاطع فيها الأصوات والفضاءات، ليصبح النص الرحلي فضاءً لتجسيد جدلية الذات والآخر، والرجل والمرأة معًا.
وتعتمد المؤلفة منهجًا نقديًا متداخل الأبعاد، تمزج فيه بين التحليل السيميائي للعلامات والدلالات، والمقاربة البنيوية التي تتبع العلاقات الداخلية للنص، مع استحضار البعد التاريخي الذي يضيء السياق الحضاري والثقافي للرحلة، بالإضافة إلى اللمسة النفسية التي تكشف العمق الشعوري الكامن خلف التمثيل النسوي. هذا التعدد المنهجي منح الكتاب مرونة وثراءً، وجعله يوازن بين التنظير والتطبيق، فيقدّم تأصيلًا نقديًا وفي الوقت ذاته قراءات نصية دقيقة تكشف جماليات النص الرحلي.
وتشير القيسي من خلال قراءتها إلى أن حضور المرأة في الرحلة ليس مجرد وصف عابر، بل هو تمثيل جمالي يختزن أسئلة الهوية، والذاكرة، والاغتراب. فعندما يصف ابن بطوطة المرأة الفارسة في بلاد الأناضول، أو يورد مشاهد النساء المشاركات في الحياة العامة في مالي، فإن النص يلتقط صورة مختلفة للمرأة ويمنحها موقعًا فاعلًا في التاريخ الاجتماعي والثقافي. كما أن وصف نساء الهند أو الأندلس في بعدها الجمالي يكشف عن علاقة النص بالمرجعيات المثالية للجمال والطهر. وحتى عند الحديث عن عالم الأساطير والعجائب، فإن المرأة تتخذ بعدًا رمزيًا يفتح النص على عوالم الغموض والدهشة، وكأنها بوابة المخيال الجمعي نحو الماورائي.
اللغة التي صاغت بها القيسي دراستها جاءت دقيقة ومنضبطة، تميل إلى الطابع العلمي من دون أن تُقصي البعد الأدبي. فهي تستعمل مصطلحات مثل «السرد»، «التلقي»، «الهوية»، «العلامة»، و»الجسد»، كأدوات تحليلية أساسية، لكنها تحافظ في الوقت ذاته على حيوية النص النقدي بما يجنبه الجفاف. أما مصادر الكتاب فقد تنوّعت بين مراجع نقدية عربية وغربية معاصرة، ونصوص تراثية وإبداعية، وهو ما أضفى على الدراسة ثراءً معرفيًا واضحًا، وجعلها قادرة على مخاطبة المتخصص والمهتم العام على السواء.
يمثل الكتاب إسهامًا مهمًا في حقل الدراسات النسوية وأدب الرحلات معًا، فهو يقدّم مقاربة نقدية جديدة تخرج من أسر القراءة التقليدية إلى فضاء أوسع، حيث تصبح المرأة شريكًا في إنتاج النص والمعنى، لا مجرد موضوع للوصف. ومن هنا، فإن أهمية هذا الإصدار لا تنحصر في كونه إضافة للمكتبة العربية، بل تتجاوز ذلك لتجعله مرجعًا يمكن الاعتماد عليه في الدراسات النقدية المعاصرة.
ويُتوقع أن يحظى الكتاب باهتمام الأوساط الأكاديمية والباحثين في النقد الأدبي والثقافة النسوية وأدب الرحلة، لما فيه من جدّة في الطرح وصرامة في المنهج، فضلًا عن أنه يفتح أمام القارئ العام أفقًا جديدًا للتفكير في النصوص التراثية بوصفها نصوصًا حيّة، قابلة لإعادة القراءة والتأويل من زوايا متجددة.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
04-09-2025 10:21 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |