01-09-2025 09:15 AM
بقلم : زياد فرحان المجالي
المشير في ذاكرة الأردن
حين نقرأ تاريخ الأردن، نقف أمام رجالٍ صاغوا المجد بأفعالهم، لا بأقوالهم. في مقدمتهم المشير حابس بن الشيخ رفيفان المجالي (أبو سطام)، الفارس الذي خرج من البادية، وتربى على قيمها: الشرف، الكلمة، الوفاء، وصار لاحقًا أحد أعمدة الجيش العربي ورجال الدولة.
ارتبط اسمه بمعارك فاصلة: الطرون وباب الواد، حيث برز قائداً يعرف أن النصر لا يُصنع بالسلاح وحده، بل بالروح الصلبة التي لا تنكسر.
الكتيبة الرابعة… "الرابحة المنصورة"
من أبرز محطات سيرته قيادته للكتيبة الرابعة. كان يراها أكثر من وحدة عسكرية، بل مرآة لروحه المقاتلة. ومع الانتصارات التي حققتها تحت قيادته، أطلق عليها اسمًا خالدًا: الكتيبة "الرابحة" أي "المنصورة".
لم يكن الاسم زينة، بل تعبيرًا عن يقين: أن هذه الكتيبة خرجت من أصعب المواجهات مرفوعة الرأس، كما في الطرون وباب الواد. ومنذ ذلك اليوم، صار اسم "الرابحة" يقترن باسم حابس المجالي، رمزًا للصلابة والانتصار.
التكليف… بداية القصة
قصتي مع المشير لم تكن وليدة صدفة. لقد كلّفني كبار رجالات الوطن:
المرحوم دولة الدكتور عبدالسلام المجالي،
المرحوم المهندس عبدهادي المجالي،
معالي الخال العزيز نصوح المجالي أطال الله في عمره،
السيد عبد الحي المجالي عميد السلك القنصلي في الأردن أطال الله في عمره.
قالوا لي:
> "اذهب إلى المشير… وخذ منه حديثًا مطولًا، ليبقى ذكرى مؤرشفة للأردنيين جميعًا."
كان هذا التكليف بالنسبة لي وسامًا كبيرًا. شعرت أنني لا أذهب لمقابلة رجل، بل لأجلس مع التاريخ ذاته.
الوصول إلى البيت… استقبال العميد محمود
في اليوم المحدد، وصلت إلى بيت المشير في عمّان. لم يستقبلني هو عند الباب، بل كان في استقبالي العميد محمود المجالي، مرافقه المهيب، بهيّ الطلعة، صارم الملامح. في تلك اللحظة شعرت أنني دخلت إلى عالمٍ تحكمه الرجولة والصرامة والانضباط.
قادني إلى الداخل. هيأت الأوراق، الكاميرا، وأجهزة التسجيل. كنت على وشك أن أبدأ لقاءً يشبه ما يُسمى اليوم "بودكاست"، لكنه في جوهره كان سيغدو وثيقة تاريخية للأجيال.
اللقاء… ذكريات جدي المفاجئة
بعد دقائق، دخل المشير في كامل هيبته. صافحني بحرارة، وسألني عن والدي، ثم فاجأني بحديثه عن جدي عبد اللطيف المجالي. ابتسم وهو يستعيد ذكرياته معه وقال:
> "كان جدك لا يطيق أن يسمع كلمة حيّة أو أفعى… كلما ذُكرت أمامه كان يتأفف بشدة، فيضحك الحاضرون."
ثم تابع ضاحكًا:
> "كنت أستمتع بالجلوس معه… رجل يجمع بين الطيبة والصرامة، ومجلسه لا يُنسى."
في تلك اللحظة، شعرت أنني أمام إنسانٍ لا يقتصر تاريخه على ساحات المعارك، بل يمتد إلى تفاصيل الطفولة ومجالس البادية ودفء العلاقات العائلية.
اللحظة الفاصلة… صمت الأسرار
كنت أتهيأ لبدء الحوار، بعد أن هيأت أجهزتي للتسجيل. لكن المشير التفت إليّ فجأة وقال بحزم وهدوء:
> "يا ولدي… أطفئ الأجهزة كلها. لا أريد أن يُسجَّل هذا اللقاء."
أطعت أمره، وجلست مذهولًا. أوضح لي أنه لا يريد أن يُحفظ كلامه على شريط. ليست المسألة خوفًا أو ترددًا، بل أمانة. قال بصدق:
> "هناك أسرار نحملها في صدورنا لا تُحكى… الأوطان تُحمى بالصمت أحيانًا أكثر مما تُحمى بالكلام."
في تلك اللحظة أدركت أنني أمام رجلٍ لا يساوم على الأمانة. قائد انتصر في الميدان، لكنه اختار أن ينتصر مرة أخرى بالصمت.
الخروج… أثر لا يُمحى
انتهى اللقاء بلا تسجيلات، لكن أثره في قلبي كان أعظم من أي وثيقة. خرجت من بيته وأنا أحمل قناعة راسخة: أن البطولة ليست في ضجيج الكلمات، بل في ثقل ما يُصان.
لقد جلستُ مع رجل قاد الكتيبة الرابحة المنصورة، وحقق النصر في الطرون وباب الواد، ثم حمل أمانة أسرار الدولة كما يحمل المحارب سيفه، لا يفرط به ولا يضعه إلا حيث يجب
بيت صار متحفًا
واليوم، حين أمرّ بذاك البيت المتواضع المهيب في عمّان، أراه وقد صار متحف المشير حابس المجالي، شاهدًا حيًا على سيرته. جدرانه تحكي قصص البطولات، وصوره تفيض بالهيبة. لم يكن البيت مجرّد جدران، بل ذاكرة وطنية تحفظ قصة رجل لم يطلب مجدًا لنفسه، بل عاش ليصنع مجد الأردن.
حديث مع التاريخ
تجربتي مع المشير لم تكن مقابلة عابرة. كانت حديثًا مع التاريخ، حديثًا علّمني أن البطولة الحقيقية ليست في كثرة ما يُقال، بل في عمق ما يُصان.
سيبقى المشير حابس المجالي في ذاكرة الأردن رمزًا للقيادة والفروسية، رجلًا جمع بين الانتصار في الميدان والصمت الذي صان الوطن. وبيته – وقد صار متحفًا – شاهدًا على قائدٍ استحق أن يُصنف بين الكبار الذين حملوا أمانة الدولة بصدق، وتركوا إرثًا لا يزول.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
01-09-2025 09:15 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |