19-08-2025 01:40 PM
بقلم : السفير ابراهيم عبيدات
بعد أن تخرجت من الجامعة وأنهيت عامين من الخدمة في وزارة التربية والتعليم التحقت بالقوات المسلحة لتأدية الواجب الوطني لمدة عامين كاملين، وما زالت ذكريات تلك الفترة في مخيلتي ولا اظن انها تفارقني ابدا.
حرصت في اليوم الأول على النهوض باكرا وأكدت على والدتي ( رحمها الله) ان تتأكد من ذلك احتياطا لكنني سبقتها وارتديت ثيابي وحملت حقيبتي التي جهزت فيها بعض الغيارات الداخلية ولباس اخر لارتدائه أثناء العودة من المعسكر مجازا، وكنت قد حلقت شعري على الصفر استعدادا.
خرجت من البيت حاملا حقيبتي للالتحاق بمركز التجنيد تخالطني مشاعر مشوشة وغامضة وكنت اشحذ عزيمتي متذكرا ما كان والدي العسكري القديم يمطرني به من عبارات اذا تكاسلت او اذا خشيت أمرا او تذمرت من اي شيء مثل ( اللي مثلك بوقف وظيفة ست ساعات بعز الثلج)، أو ( لو انك خدمت عسكري لكنت ازلم من هيك وأكثر انضباطا).
المهم وصلت إلى مركز التجنيد حيث تواجد الكثير من الشباب عرفت عددا منهم من زملاء الدراسة أو الجامعه فاستعدنا بعض الذكريات ونسينا التوتر حتى نودي على اسمائنا وركبنا الكونتنتال وانطلقنا إلى معسكرات خو حيث حل المساء حينها فتم توزيعنا الى فصائل، وانطلقنا بعدها كل فصيل على حده نحو مركز العهدة حيث تم تزويدنا بالبطانيات والملابس والاحذية والجرابات والغيارات الداخلية وكوب للشرب وبورية وشعار، ومن ثم وانطلقنا نحو المعسكر كل فصيل في ثكنة تتسع لست وثلاثين فردا حيث توزعت الاسره على جانبي الثكنة وأمام كل سرير يوجد صندوق خشبي لحفظ الأمتعة.
اول عبارة تعلمناها وكان علينا الالتزام بها هي نعم سيدي.
الدرس الأول كان حول كيفية ضبط الأسرة والامتعة وكيف سيكون الترتيب يوميا، تم الشرح بدقة متناهية حيث سيتم التفتيش على ذلك يوميا، بعدها ذهبنا إلى النوم حتى ساعة مبكرة من فجر اليوم التالي صحونا على أصوات طرق شديده ونداء بصوت حازم ( انهض)، كان صوت المدرب الذي طلب منا الاستعداد خلال عشرة دقائق لطابور الرياضة الصباحية الذي بدأ بالهرولة مع النشيد ( الله، الوطن، الملك) وأهازيج وطنية كان يرددها المدرب نعيدها خلفة حتى حفظناها غيبا، عدنا بعدها إلى صالة الطعام حيث وزع علينا الإفطار الموحد، طبعا كان منا من يحمل بعض أقراص الجبنة وبعض المعلبات، وهم من الشباب الذين احتاطوا لهذا الظرف حيث لا يكون الطعام كما يشتهون، المهم ان هذا الامتياز اختفى بعد أيام حين نفذت المؤونة منهم وعادوا إلى تناول ما هو مخصص للجميع، ولا مجال هنا للتخلي عن وجبتك بعد يوم شاق من التدريب وتحمل الجوع إلى اليوم التالي حيث لا تدري ما سيتم تقديمه.
التدريبات في البداية ركزت على تدريبات المشاة ورفع اللياقة البدنية من خلال عقوبات الانضباط فكانت تتراوح بين الركض إلى مسافات يحددها المدرب بالإشارة إلى قهقور من الحجارة لا تكاد تراه الا بصعوبة ( لف من حوله ثلاث مرات) او مشية البطة او تمارين الضغط وغيرها من التمارين الشاقة، ثم انتقلنا إلى التدرب على الأسلحة بمختلف انواعها من البنادق م16 والرشاشات الخفيفة والمتوسطة والثقيلة والقنابل وأنواع المتفجرات، وهنا اذكر حادثة طريفة حين كان يشرح المدرب عن متفجرات tnt قائلا انها ت ن ت فصححه احد المكلفين بأنها TNT فنهره بعنف قائلا مذكوره بكراسة الجيش ت ن ت وانت مش افهم من كراسة الجيش، طبعا لم يجرؤ احد على الاعتراض خشية العقاب الجماعي عملا بمقولة ( العقاب يعم والثواب يخص)..
في احدى الليالي ودون سابق إنذار أخرجنا المدرب من الثكنة ووجدنا بقية الفصائل في الساحة وبعد شرح سريع توجهنا إلى مخزن العهدة واعطي كل واحد منا بندقية لتنفيذ تمرين المسير الليلي، حيث كانت ليلتها حالكة الظلمة مع التنبيه على أن أهم مبدأ في المسير الليلي هو السير على أطراف الأصابع وعدم أحداث اي حسفة تمكن عدوك من اكتشافك، وبعد مسير استغرق حوالي نصف الساعة وفي خضم الهدوء المشوب بالخوف والحذر انطلقت فجأة أصوات رصاص غزير أصحابنا بالهلع ولم ندري ما نفعل، تلاه أصوات استغاثة من احد المدربين حيث ادعى انه اصيب وهنا تعالت أصوات مختلطة منها أصوات الذين هرعوا لنجدة المصاب وأصوات البكاء الهستيري من بعض الشباب منها ما كان خوفا ومنها ما كان حزنا وتعاطفا مع المدرب حيث تبين لنا ان كل ما حدث كان مجرد مسرحية لتعليمنا كيفية التصرف في مثل هذه المواقف
طبعا لا زلت اذكر العديد من المواقف مثل كيفية المحافظة على القيافة والنظافة وتلميع البسطار حتى يصبح كالمرآة والقلق الصباحي لحظة تفتيش المدرب قبل الطابور والحلاقة بالماء البارد حيث تصبح الشفرة الحادة كأنها تحتاج إلى شحذ رغم أنها جديده.
المهم في كل هذه الذكريات انها وحدت الرؤوس واختزلت كل الفوارق الطبقية والعائلية والمادية بين المكلفين وأصبح الجميع ينادى يا عسكري وكانت الإجابة واحدة نعم سيدي.
فالوطن يا سادة هو السيد وفي حضرة الوطن كلنا عسكر وبنعم سيدي نلبي النداء.
السفير ابراهيم عبيدات.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
19-08-2025 01:40 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |