حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,18 أغسطس, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 7729

د.عبدالله سرور الزعبي يكتب: من ليلة مذبحة السكاكين الأوروبية إلى الأراضي الفلسطينية .. ذاكرة العنف حين تتكرر

د.عبدالله سرور الزعبي يكتب: من ليلة مذبحة السكاكين الأوروبية إلى الأراضي الفلسطينية .. ذاكرة العنف حين تتكرر

د.عبدالله سرور الزعبي يكتب: من ليلة مذبحة السكاكين الأوروبية إلى الأراضي الفلسطينية ..  ذاكرة العنف حين تتكرر

17-08-2025 08:24 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د.عبدالله سرور الزعبي
في التاريخ الأوروبي، تمثل ليلة السكاكين الطويلة عام 1934 لحظة حاسمة، حيث اختارت السلطة الألمانية أن تُحكم قبضتها عبر الخوف والقوة بدل الإقناع والشرعية، وشهدت ألمانيا ما يُعرف بـ ليلة السكاكين الطويلة، وهو ما عبر عنه غرامشي «حين تعجز السلطة عن الإقناع، تلجأ إلى الإكراه».


خلال العقود الأخيرة، ترددت أصداء هذا المنطق في الشرق الأوسط، في جناحي دولة فلسطين، في غزة (حيث القتل والدمار والحصار، وأزمة إنسانية معقدة، تشمل أكثر من 2 مليون شخص) والضفة الغربية (احتلال عسكري، توسع استيطاني، وانقسام داخلي)، يقابله صمت دولي يتدثر بلغة التوازن، متجاهلًا أن الموازين هنا تميل حيث لا عدل، والمسرح أكثر تعقيدًا.
ما يجري ليس صراعًا بين قوتين متكافئتين، بل مواجهة بين سلطة تملك ترسانة كاملة وشعب محاصر، وكما حذّر ميشيل فوكو قائلاً «حين تسقط السياسة قناعها، نرى وجه الحرب». غزة اليوم هي ذلك الوجه، مدن مدمّرة، حصار خانق، وتجريد الإنسان من كرامته قبل حقوقه.
حين يصبح التاريخ مرآة للمستقبل، لدى بعض الزعماء كنتنياهو، المشحون بخلفية عقائدية توراتية ترى في فلسطين أرضًا بوعد إلهي لا يقبل المساومة والممتزج برؤية أمنية مطلقة، يدفع نحو سياسات تُحوّل الصراع من سياسي قابل للحل إلى مواجهة وجودية مفتوحة.
جذور هذا الفكر لا تقف عند النصوص الدينية، بل تمتد إلى نموذج تاريخي شهدته أوروبا في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حين استخدمت الحركات القومية الدينية، مثل الألمانية بالمرجعة اللوثرية المتشددة، والصربية الأرثوذكسية، بالميثولوجيا الدينية لتبرير مشاريع التوسع والسيطرة. وكما أضفى الخطاب الديني في أوروبا مسحة قدر مقدس على مشاريع قومية عنيفة، يفعل نتنياهو اليوم بتحويل الصراع السياسي إلى صراع عقائدي مصيري، ما يجعل الحلول الوسط شبه مستحيلة.
لا يمكن قراءة مواقف نتنياهو الأخيرة، وخصوصًا تصريحاته عن فكرة إسرائيل الكبرى، إلا باعتباره تهديداً للأردن. هذه الرؤية، تعيد إنتاج خرائط الصهيونية الأولى، وقد تجد امتدادًا إلى تفاهمات قد تكون تمت في اتصالات دولية مغلقة، وربما مع قيادات عالمية، مثل الرئيس الأمريكي، اعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل (2017)، وضم الجولان (2019)، وبالتالي فأنها تقرأ بقابلية اتخاذ قرارات أحادية تُغيّر قواعد اللعبة، وتجعل من مشروع التوسّع أكثر واقعية إذا حظي بغطاء سياسي جديد.
إن صحت هذه الفرضية، وتم التوافق عليها، قبل اجتماع ألاسكا، والذي قد يكون تم فيه الاتفاق على مقايضات جيوسياسية عابرة للملفات (نتنياهو مهد لها بتصريحاته)، وما يرافقها من أي تفاهم أميركي روسي واسع لصفقات جانبية تمس ملفاتنا، ولإعادة رسم الشرق الأوسط، عندها فإن ما يجري لا يقتصر على حرب في فلسطين، بل يدخل في إطار مشروع جيوسياسي أوسع لإعادة توزيع النفوذ والحدود في المنطقة.
تصريحات نتنياهو الأخيرة، والمتوافقة مع رؤية إسرائيل الكبرى، تعبير توراتي تعدّدت دلالاته، وهو تراث حاضر في اليمين الإسرائيلي، ويُستحضر سياسيًا، ويضيف بعدًا أيديولوجيًا توسعيًا للحرب الجارية (رغم تحذيرات مسؤولين ومفكرين إسرائيليين، باراك، وأيالون، ويوفال هراري، وغيرهم، من أن مسار الضم الدائم يعني انزلاقا إلى نظام فصل وقمع مؤسسي يُهدد الأمن الإسرائيلي ذاته، ويُفجّر البيئة الإقليمية)، وتُفهم في عواصم عربية ودولية، كإشارة اختبار للحدود الممكن دفعها سياسيًا وجغرافيًا، وينتقل تدريجيًا من الرمز الأيديولوجي إلى اختبار واقعي، في ظل الميوعة في المواقف الدولية.
الخطر لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل تهديدًا مباشرًا لاستقرار الإقليم ولسيادة الدول، وخاصة الأردن، لا بل يهز البنية الأخلاقية للنظام الدولي، وخاصة في الغرب الذي يدّعي الدفاع عن القواعد الأخلاقية (اقتبس من كيلسن، الحق الطبيعي لا يتحقق الا ضمن إطار العدالة والمعايير المشتركة، لا بالتوسع الفردي)، وكما قالت آرنت «الشر يصبح عاديًا حين نتوقف عن التفكير فيه».
الأردن، وعبر تاريخه الحديث، يعتبر نموذجًا فريدًا من التسامح السياسي في إدارة الصراعات، فالقيادة الهاشمية، اعتمدت على مبدأ احتواء الخصوم في المنطقة، والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، وهذا النهج ساعده على تجنب الانزلاق نحو صراعات خارجية وداخلية دامية.
إن موقع الأردن الحساس يجعله الأكثر تأثرًا بأي محاولة لتنفيذ المشروع الإسرائيلي، حيث تشمل المخاطر، الحدود والأمن الإقليمي (أي توسّع في السيطرة الإسرائيلية، يهدد خط الدفاع الحدودي الأردني، ويزيد احتمالات الاشتباكات أو تدفق اللاجئين والمسلحين)، وان أي إعادة تعريف للوضع الديمغرافي أو السياسي في القدس، يهدد الوصاية الهاشمية الدينية والتاريخية على المقدسات، ويهدد الاستقرار الاجتماعي له، وان تصاعد التوترات على حدوده سيرفع وتيرة الهجرة أو النزوح، مما يولّد ضغوطًا اجتماعية وسياسية داخلية، قد تستغلها جماعات متطرفة أو أحزاب معارضة لتأجيج الاحتقان، وتهديد العلاقات الدبلوماسية الإقليمية، ويضع الأردن أمام خيار صعب بين الحفاظ على علاقته الإستراتيجية مع الولايات المتحدة والتعاون مع إسرائيل في بعض الملفات، أو الدفاع عن مصالحه الوطنية وأمنه القومي، ما قد يؤدي إلى توترات إقليمية متعددة.
إن ما يجري، في المنطقة وفي احسن الأحوال (ان لم تذهب لحرب أوسع)، قد ينحصر في عدة سيناريوهات، أولها، فرض تثبيت الأمر الواقع المُوسّع (توسيع الضم في الضفّة، ووادي الأردن)، والثاني، الوصول إلى تقنين الضم، عبر تفاهم دولي يمنح إسرائيل اعترافًا بضم مناطق استراتيجية (الكتل الكبرى والأغوار)، مقابل مكاسب لقوى دولية بملفات أخرى (مع تصاعد اللهجة الأميركية عن الواقع الديمغرافي، وهندسة اقتصادية، وبنى تحتية تفصل الضفة إلى كانتونات)، والثالث، الارتداد الدولي والداخلي، باستخدام الضغط القانوني والحقوقي، مما قد يقيّد هامش التوسّع، ويجعل كلفة الحرب عالية، وتآكل شرعية الحكومة الإسرائيلية، تحت ضغط الاقتصاد والمجتمع الداخلي والدولي، مما قد يجمد الصراع، وعملية الضم، وعودة لمسارات إدارة الصراع دون حسم.
إن مثل هذه السيناريوهات، تضع الأردن تحت ضغط الديموغرافيا، كنتيجة للدفع الصامت للسكان شرقًا (إذا جرى تفريغ جيوب حساسة)، وتهديد الوصاية على المقدسات وما ينتج عنها من تفاعلات شعبية، وتهديدات اقتصادية (ملف المياه والطاقة) واضطراب سلاسل التوريد، واختبار متانة معاهدة وادي عربة سياسيًا ورمزيًا، وتهديدات حدودية، وغيرها.
مصلحة الأردن تتطلب الجمع بين ردع حدودي محسوب وإجراءات دبلوماسية وقانونية واقتصادية وبناء تحوّطات لمصادر المياه والطاقة، ومظلّة عربية (على الدول العربية أن تؤمن بالمطلق بان الأردن القوي، مصلحة إستراتيجية لهم)، وأوروبية مانعة، آخذين بعين الاعتبار أن النافذة الزمنية للتأثير ما تزال مفتوحة، لكنها تضيق مع كل سابقة جديدة تُكرّس الأمر الواقع.
الأوروبيون، سبق لهم أن دفعوا ثمن تجاهلهم لوقف صعود التيارات المتطرفة قبل قرن من الزمن، وان أي تجاهل لما يجري في فلسطين اليوم، قد يكتب فصلًا جديدًا من الانهيارات الأخلاقية والسياسية التي لن تقف عند حدود غزة أو الضفة، بل ستمتد إلى قلب النظام الدولي ذاته (التاريخ لا يكرر نفسه فحسب، بل يعاقب من لم يتعلم منه).
التاريخ يعلّم أن العنف المُمأسس لا يحسم الصراعات، بل يورث أجيالًا جديدة من الغضب. حروب القرن الماضي في أوروبا انتهت، لكن ندوبها باقية بالذاكرة الأوروبية، وما يُزرع في وعي الشرق الأوسط اليوم قد يظل حيًا لعقود، بل ويمتد إلى ما هو أبعد من المنطقة، وهو الأمر الذي يرفض نتيناهو تفهمه والاعتراف به.
درس ليلة السكاكين الطويلة، ليس مجرد حدث تاريخي، بل تحذير للعالم من أن الاستبداد والصمت الدولي على المعاناة الفلسطينية، والتوترات المستمرة في المنطقة، تعكس نفس المخاطر التي عانت منها أوروبا، ويجب العمل على تجنها اليوم.
الأردن، الدولة المعتدلة، في قلب المنطقة، ويمتلك أدوات التحصين الشعبي، ودبلوماسية متوازنة، ومجتمع مدني ناشط، وقيادة هاشمية حكيمة، تجمع بين التسامح السياسي، وقوة التأثير في المؤسسات الدولية، قادر على حماية أمنه، وله القدرة بالمساهمة في استقرار وامن الشرق الأوسط.
*مركز عبر المتوسط للدراسات الإستراتيجية











طباعة
  • المشاهدات: 7729
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
17-08-2025 08:24 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
ما مدى رضاكم عن أداء وزارة الأشغال العامة والإسكان بقيادة ماهر أبو السمن؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم