12-08-2025 09:02 AM
بقلم : تمارا خزوز
بينما يشتد الجدل حول جودة التعليم ومستوى النزاهة الأكاديمية، تبرز ملامح «سوق سوداء» في عالم التدريس الخصوصي، تزدهر خارج الأطر الضريبية والرقابية، وتتداول حولها الروايات عن عمليات بيع وشراء أسئلة امتحانات وأبحاث ورسائل وأوراق أكاديمية في مختلف المستويات التعليمية، وذلك أمام مرأى ومسمع الجميع.
الحكاية، في تقديري، تبدأ من هنا؛ قطاع تهيمن عليه «سوق سوداء»، يقابله صمت من قبل الأطراف المعنية، ولكل منها أسبابه الموجبة، فكيف نتوقع إذا تحسنًا في جودة التعليم أو حفاظًا على النزاهة الأكاديمية؟
الطرف الأول، والأضعف في هذه المعادلة، هم بالطبع أولياء أمور الطلبة في البرنامج الوطني (التوجيهي)، المنهكون ماديًا ومعنويًا في سعيهم لوضع أبنائهم على خريطة المنافسة محليًا ودوليًا، وكذلك أقرانهم في البرامج الدولية. فعندما تصبح تكلفة الدراسة، مقارنةً بعوائدها المتواضعة بعد التخرج في السوق المحلي، كارثية، ندرك حجم استنزاف الطبقة الوسطى لمواردها ومدخراتها في تعليم أبنائها ضمن هذه المسارات.
أولياء الأمور يخضعون حكمًا لعقود إذعان مادية ونفسية يفرضها منطق سوق التدريس الخصوصي «السوداء»، عندما تتحول فكرة وجود طالب متفوق في الأسرة من ثقافة استعراض اجتماعي قديمة إلى حاجة اقتصادية ملحّة، تُعلَّق عليه الآمال ليكون طوق نجاة لينتشل أسرته التي تعاني ظروفًا معيشية قاسية.
وللتوضيح، الحديث هنا لا يشمل الحالات التي يقدم فيها المعلمون دروس إسناد لمعالجة فجوات معرفية، أو دعمًا نفسيًا يكسب الطالب الثقة، أو تدريبًا إضافيًا للطلاب المتفوقين، ما دام الأمر يتم بالتراضي وبأجر معقول. المقصود هو الطرف الآخر من المعادلة، الشخص — وليس المعلم، لأن اللقب لا يستحقه — الذي يستغل ظروف الأهل بطمع وجشع، ويخضع أتعاب الدروس الخصوصية لمضاربة سعرية، في حالة مهينة من التنازل المهني والأخلاقي.
مضاربة لن يصدقها إلا من خاض التجربة؛ فبحسب أولياء أمور، تصل أسعار ساعة الدرس الخصوصي لبعض مواد البرامج الدولية إلى 120 دينارا للطالب الواحد، علمًا بوجود حصص جماعية. أما دروس التوجيهي فتتراوح بين 15 و20 دينارًا للساعة، وترتفع إلى 25 أو 30 مع اقتراب الامتحان، والطريف أن هذه التسعيرة تختلف باختلاف المنطقة الجغرافية.
إشكالية هذا المشهد مزدوجة؛ أولها شبهة التهرب الضريبي، إذ يتم الدفع نقدًا أو عبر المحافظ المالية، والثانية تضارب المصالح، عندما يعطي المعلم دروسًا خصوصية مدفوعة لطلابه في المدرسة، فيخلّ بمبدأ العدالة التعليمية. فالطالب الذي يدفع يتلقى شرحا أوفى في المنزل، بينما يُترك غير المقتدر وسط التشويش والاكتظاظ داخل الصف، ناهيك عن معلم منهك يعمل حتى منتصف الليل، ويصارع نهارًا تحت ضغط الوقت وكثافة المنهاج.
الطرف الأخير هو وزارة التربية والتعليم، ومديريات التعليم الخاص، وإدارات المدارس الحكومية والخاصة، وهي في وضع لا تُحسد عليه؛ فمن جانب تصارع لتطوير المنظومة التعليمية في ظل شح الموارد والاعتماد على المساعدات الخارجية، ومن جانب آخر تعجز عن محاربة الظاهرة. حتى المدارس الخاصة التي وضعت شروطا تمنع التدريس الخصوصي لم تتمكن من ضبط المسألة ما دام ذلك يحدث خارج أسوارها، وما دام السوق يدر أرباحًا تصل إلى ثلاثة أو خمسة أضعاف راتب المعلم الرسمي. وفي ظل الارتفاع غير المسبوق في تكاليف المعيشة، تصبح هذه المهمة شبه مستحيلة.
لا شك أنها قضية بالغة الخطورة والتعقيد؛ فهي تتجاوز فكرة التحصيل الإضافي أو تحسين الدخل إلى صميم العلاقة التعليمية التربوية. فعندما يفقد المعلم حياده المهني ويدخل في علاقة مالية مباشرة مع طلابه، مظهرًا تفضيلًا لمن يدفع، ومقصيًا غير المقتدر، تصبح هذه وصفة جاهزة لانعدام النزاهة الأكاديمية. بالمقابل فإن جذر المشكلة هو غياب العدالة واختلال مبدأ تكافؤ الفرص؛ فأولياء الأمور والطلبة والمعلمون جميعهم في قلب المعاناة: ولي أمر يستنزف موارده، طالب تحت ضغط نفسي، ومعلم يضطر للعمل مساءً، وآخر يستغل الظرف لتحقيق أرباح فاحشة.
للأمانة، لا أملك حلولًا تفصيلية وأترك ذلك لذوي الاختصاص، لكني على يقين أن أزمة «النزاهة الأكاديمية» تبدأ من سوق التدريس الخصوصي «السوداء»، وأنها قضية رأي عام حان وقتها!
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
12-08-2025 09:02 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |