12-08-2025 09:01 AM
بقلم : تهاني روحي
في مجتمع تتقاطع فيه التحديات اليومية مع مسؤوليات لا تنتهي، تبقى النساء غالباً عالقات في حلقةٍ غير مرئية من أعباء الرعاية، ما يوقف مسارهن المهني ويحد من تراكم خبراتهن، وأحياناً يدفعهن للتوقف عن العمل لسنوات طويلة. هنا برزت فكرة مشروع «بُكرة» (BUCRA)، ليعيد صياغة المشهد: تمكين اقتصادي للمرأة، وإرساء أسس رعاية طفولة مبكرة ذات جودة واحتراف، في إطار يعكس تغييراً حقيقياً في نظرتنا للعمل والرعاية كركيزتين للتنمية والإنصاف.
المشروع ليس فكرة عابرة، بل شراكة استراتيجية بين كندا والأردن من خلال «الخارجية الكندية»، ومؤسسة (ويسك)، والمجلس الوطني لشؤون الأسرة، بالتعاون مع المؤسسة العامة للتدريب المهني. رؤيته خلال خمس سنوات واضحة، فتح مسارات انخراط في سوق العمل أمام أكثر من 8.600 امرأة في محافظات مختلفة، عبر تطوير كفاءاتهن للعمل باحتراف في رعاية الطفولة المبكرة، أو تأسيس حضانات منزلية مرخّصة تستوفي المعايير الصحية والتعليمية والاجتماعية.
لكن الواقع الأردني كشف فجوات واضحة، فنحو 40 % من الأسر لا تعتمد على خدمات رسمية للرعاية، رغم معرفتها بها، بسبب ضغوط اقتصادية تدفع نحو خيارات أكثر مرونة وأقل تكلفة. الثقة تُبنى غالباً عبر الروابط الاجتماعية لا عبر المعايير الرسمية، والحضانات المنزلية – رغم الحاجة والرغبة في إنشائها – تثير القلق، خاصة لدى أهالي الأطفال ذوي الإعاقة، في ظل غياب برامج متخصصة وخوف من التهميش والوصمة.
توضح نانسي المومني، مديرة مكتب WUSC الأردن، أن المشروع اعتمد على تقييم احتياجات متعمّق شمل الأعراف المجتمعية المرتبطة بالنوع الاجتماعي، لتعزيز مشاركة المرأة اقتصادياً في رعاية طفولة دامجة. الفكرة بسيطة لكنها جوهرية: إذا توفرت حضانات آمنة، ستزداد مشاركة المرأة في سوق العمل. ومن هنا جاء التدريب المهني التكميلي، وإطار الترخيص العملي، كمسارين يربطان المهنية بالكرامة.
وفي أواخر 2024، انتقل المشروع من الفكرة إلى الميدان بإطلاق أول دليل إرشادي لإنشاء وتشغيل الحضانات المنزلية وفق معايير صحية وتعليمية واضحة، مع دمج التدريب والترخيص والتوعية في منظومة واحدة. كما لم يغفل المشروع عن عناصر بناء الثقة مثل وجود كاميرات مراقبة، تدريب الكوادر العاملة، وتهيئة مرافق مناسبة للأطفال.
هذا التوجه تماهى مع الإستراتيجية الوطنية لرعاية الطفل، ليجد «بُكرة» أرضية خصبة للتحول المؤسسي، وصياغة رؤية تجمع بين التمكين والرعاية والمشاركة المستدامة. وهنا لا يكتفي المشروع بتقديم الدعم، بل يدعو إلى تغيير في طريقة التعايش: المرأة كقوة إنتاج لا عبء، والطفل كبداية واعية للاستثمار في الأجيال القادمة.
الدروس المستخلصة من التجربة واضحة، الطريق إلى التغيير يبدأ من بناء الثقة في جودة الخدمات، وصياغة منظومة تشاركية وشفافة. التقييم الميداني عزّز هذه الرؤية عبر استبيان شمل 982 مشاركاً، ومقابلات مع ممثلي المجتمع المدني والقطاع العام، وسبع جلسات حوارية في المحافظات المستهدفة. وكانت النتيجة بأن أنماط الرعاية غير الرسمية والأسهل هو إنشاء حضانة منزلية غير مرخصة وخاضعة لمعايير السلامة والتدريب، والتكلفة والسلامة والقرب والثقة الشخصية هي المحركات الأساسية لقرارات العائلات.
ورغم أن الحضانات المنزلية ليست الخيار الوحيد، إلا أنها تظل فرصة قابلة للتطوير نحو مزيد من الاحتراف والنظافة والرقابة. والأهم أن عمل المرأة في هذا القطاع ليس مجرد دخل إضافي، بل هو مسار لإعادة تعريف الذات، وبناء هوية مهنية مستقلة، إذا ما توفرت مسارات تدريب سهلة، وتراخيص مبسطة، ودعم لبدء المشاريع.
في النهاية، «بُكرة» ليس ميزانية أو دراسة أو حملة، بل محطة في مسار أوسع لتحويل الرعاية من عبء تقليدي يثقل نصف المجتمع، إلى ركيزة اقتصادية واجتماعية تدفع الأسرة نحو المرونة وتفتح آفاق العمل الكريم المستدام. هو دعوة لإعادة صياغة سردية الرعاية كمجال تنموي، ولإعادة الثقة بأن النساء إذا أتيحت لهن الفرصة سيصبحن محركات للنمو والابتكار.
نساء الأردن يستحققن هذا التحول. الأسرة تستحقه. ومستقبلنا الوطني يبدأ حين نمنح الرعاية والتطوير المكانة التي تليق بهما.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
12-08-2025 09:01 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |