30-07-2025 04:31 PM
بقلم : د. حمد الكساسبة
يُعد العجز التجاري في الأردن ضغطًا مزمنًا ومستمرًا على الاقتصاد الوطني، حيث تتجاوز الواردات الصادرات عامًا بعد عام. وما يلفت الانتباه أن جزءًا كبيرًا من هذه الواردات، وخصوصًا المنتجات الزراعية، والحيوانات الحية، وبعض السلع الصناعية، يمكن إنتاجه محليًا بجودة تنافسية وتكلفة معقولة، دون المساس بحرية أو رفاهية المستهلك. تشير بيانات عام 2024 إلى أن واردات الأردن تجاوزت 24 مليار دولار، منها على الأقل 3.5 إلى 5 مليارات دولار سلع لها بدائل محلية واضحة وقابلة للتطوير.
يرى البعض أن الاستيراد أرخص بسبب ندرة المياه في الأردن. لهذا الرأي بعض الصحة، خاصة في القطاعات التي تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، لكنه لا يبرر الاعتماد الكلي والثقيل على الواردات في جميع الحالات. فهناك العديد من المنتجات مثل الأعشاب، والزيتون، والدواجن، والتي لا تتطلب كميات كبيرة من المياه، ويمكن زراعتها باستخدام أنظمة ري حديثة أو المياه المعالجة والمُعاد تدويرها، مما يجعل الإنتاج المحلي أكثر جدوى في العديد من القطاعات، مع تقليل الأثر البيئي وزيادة الأمن الغذائي.
من المهم التمييز بين الإحلال المحلي الكامل والجزئي. فليس الهدف استبدال كل الواردات بشكل فوري، بل تحقيق إحلال تدريجي ومدروس في السلع القابلة للإنتاج محليًا. قد تحقق بعض القطاعات الزراعية والصناعية نسب إحلال تصل إلى 70%، بينما تظل النسبة أقل في قطاعات أخرى. هذه المقاربة تضمن الواقعية والمرونة، وتُبقي على جودة وتنوع الخيارات المتاحة للمستهلك.
وفي ظل التحولات العالمية، يمكن للإحلال المحلي أن يندمج مع أهداف التحول نحو الاقتصاد الأخضر، من خلال استخدام مصادر الطاقة المتجددة في الإنتاج، واعتماد أنظمة ري موفرة، وتوسيع استخدام المياه المعالجة. هذا يضمن تقليص الأثر البيئي وتعزيز التكيف المناخي، ويجعل الإنتاج المحلي جزءًا من التزامات الأردن البيئية والاقتصادية.
ومع ذلك، فإن تطوير الإنتاج المحلي لا يخلو من تحديات حقيقية، منها ارتفاع تكاليف الطاقة وأسعار الوقود، وضعف التمويل المتاح للمزارعين والصناعيين، ونقص التنسيق الفعّال بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص، وقلة الإرشاد والدعم الفني والتقني. كما أن البيروقراطية واللوائح غير المرنة تعيق التوسع في الإنتاج المحلي. وللتغلب على هذه العقبات، يلزم وجود خطة دعم شاملة وواضحة تشمل التسهيلات الائتمانية، وتحسين البنية التحتية، ودعم مدخلات الإنتاج في القطاعات ذات الأولوية للإحلال، بالإضافة إلى برامج تدريبية وتوعوية للمزارعين والصناعيين.
في هذا السياق، يصبح الإحلال المحلي أداة اقتصادية ذكية، وليست انعزالية، تعزز الاستقلال الاقتصادي وتخلق فرصًا صناعية وزراعية مستدامة. يمكن توجيه مشتريات الجهات الحكومية—مثل المستشفيات، والمدارس، والمؤسسات العسكرية—نحو المنتجات المحلية المعتمدة ذات الجودة العالية. كما يجب تفعيل أدوات السياسة التجارية لحماية المنتجين المحليين، بالتعاون والتنسيق مع القطاع الخاص، وبما يتوافق مع اتفاقيات التجارة الدولية والالتزامات القانونية.
إذا نُفّذت سياسة الإحلال المحلي بجدية خلال ثلاث سنوات، فقد يصل حجم البدائل المحلية إلى مليار دولار في السنة الأولى، ويتزايد تدريجيًا ليصل إلى 3.5 إلى 5 مليارات دولار بحلول السنة الثالثة. هذا التحول سيقلل فاتورة الاستيراد بشكل ملموس، ويقوي الاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي، ويدعم استقرار الدينار الأردني، ويوفر آلاف فرص العمل الجديدة في القطاعين الزراعي والصناعي، ويعزز النمو الاقتصادي الوطني بمعدل إضافي يتراوح بين 1 إلى 1.5 نقطة مئوية سنويًا، وفقًا لتقديرات أولية واقعية.
من المهم الإشارة إلى أن تقليص فاتورة الاستيراد من خلال الإحلال المحلي سيكون له أثر مباشر في تعزيز الحساب الجاري، ودعم الاستقرار النقدي، وزيادة الثقة في العملة الوطنية. وكلما تقلصت الحاجة إلى تمويل العجز التجاري بالاقتراض أو استنزاف الاحتياطي الأجنبي، كلما زادت قدرة الأردن على مواجهة الصدمات الخارجية وتحقيق استقرار اقتصادي أوسع.
تبنت دول مثل المغرب ومصر استراتيجيات مماثلة بنجاح. فالمغرب دعم قطاعات الزراعة والصناعة بشكل مكثف للحد من الفجوة التجارية، بينما عززت مصر مؤخرًا إنتاجها الغذائي والدوائي لتقليل الواردات وتعزيز أمنها الاقتصادي، مع تبني إجراءات تحفيزية للمنتجين المحليين وشروط تحفيز التصدير.
من الجدير بالذكر أن هذه السياسة لا تتعارض مع اتفاقيات التجارة الحرة الدولية، طالما تم تنفيذها ضمن قواعد واضحة وشفافية كاملة. فقد اتبعت دول ذات اقتصاديات مفتوحة مثل المغرب وتركيا إجراءات مشابهة لحماية صناعاتها الوطنية وتقليل عجزها التجاري، مع الحفاظ على الانفتاح التجاري والتنافسية العالمية.
المفتاح يكمن في التعامل مع هذه السياسة كأداة متوازنة تعمل على تنظيم السوق بما يحقق العدالة الاقتصادية والاستدامة البيئية والاجتماعية، دون فرض قيود تعيق حرية المستهلك أو تقلص خياراته. بل تضمن استمرارية الخيارات ضمن نظام اقتصادي أكثر استقرارًا وعدلاً. ويتطلب نجاح هذه السياسات إرادة سياسية واضحة، وتنسيقًا مؤسسيًا قويًا بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص، وشراكة وطنية حقيقية، ورؤية استراتيجية واضحة تعيد بناء الثقة في الاقتصاد المحلي وتعزز قدرته التنافسية.
إن بناء قاعدة إنتاج محلية قوية ليس ترفًا اقتصاديًا، بل ضرورة وطنية ملحة لضمان الاستقرار النقدي والمالي، وتعزيز فرص التوظيف، وتحفيز النمو الاقتصادي المستدام. وهو خطوة عملية نحو اقتصاد أكثر توازنًا، يقوم على الإنتاج والشراكة بدلاً من الاستهلاك والاعتماد على الخارج
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
30-07-2025 04:31 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |