29-07-2025 03:12 PM
بقلم : د. رضوان محمد بطيحة
"الصمت في حرم الجمال جمال".. عبارة تختصر الكثير مما لا يُقال حين يصدح صوت فيروز في فضاء الصباح، أو يُهمس في زوايا المساء. ليست فيروز مجرد صوتٍ جميل أو مطربة استثنائية؛ بل هي حالة وجدانية، رمز للأنفة، وسيدة للمبادئ، في زمنٍ تراجع فيه كل ما كان يُعتبر يومًا من الثوابت.
في عالمٍ يميل إلى الاستعراض، وتُقاس فيه القيمة بعدد المتابعين وكمية الضجيج، تبقى فيروز صامتة، متأملة، بعيدة، شامخة كأرز لبنان، لا تصرخ، لا تبرر، لا تلاحق الأضواء لأنها هي الأضواء في عالم الظلمات.
في صوتها خشوع، وفي حضورها هيبة لا تُشترى ولا تُمنح.. بل تُولد معها. غنت للحب، للقدس، لبيروت، للشتاء، وللأمل، لكنها لم تنكسر يومًا في وحل السوق، ولم تسمح لصوتها أن يكون بوقًا لعابري السبيل. حافظت على خطّها النقي، لم تُغرها الأضواء، ولم تهزمها العواصف. كانت وما زالت أكبر من الفن نفسه.
في زمن الحشمة كانت الأناقة، وفي زمن الأناقة صارت الحشمة
لم تكن فيروز يومًا أسيرة المظاهر، بل كانت تجسيدًا للجوهر. ببساطتها الراقية، وهدوئها المهيب، ومواقفها المتزنة، صنعت لنفسها مقامًا مرتفعا لا يداس، لتُثبت أن العظمة لا تعني الضجيج، وأن التأثير الحقيقي لا يُقاس بالظهور المتكرر، بل بالحضور النادر.
فيروز لم تنحدر لتواكب زمنًا تافهًا، بل بقيت كما هي، شامخة، صامتة، صلبة كالجبل. لم تتنازل عن حيائها، لم تحضر حفلا لا يليق، ولم تُطارد موضةً لا تليق بمقامها. فصارت ملاذ العاشقين، وأمل الحالمين، وبوصلة من يبحث عن الفن النقي الراقي.
في هذا الزمن المبتذل، كثُر المغنون وقلّت الأصوات. كثُر الراقصون على جراح أوطانهم، وقلّ من يبكونها صدقًا. فيروز كانت دائمًا في الجهة الأخرى من العالم، في الجهة التي لا يُلوثها الغرور، ولا يُدنّسها الطمع، ولا يغزوها الإسفاف.
لو أراد الزمان أن يمنحنا درسًا في الرقي، لكتب في صفحته الأولى: "فيروز". اسمٌ اختار أن يعلو دون أن يدوس أحدًا، وأن يضيء دون أن يحترق، وأن يصمت في زمن الضجيج، فيكون صمته أبلغ من الكلام.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
29-07-2025 03:12 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |