20-07-2025 12:35 PM
بقلم : د. خالد السليمي
الرؤية الملكية: ثبات في البوصلة الوطنية
قدّم جلالة الملك عبدالله الثاني منذ توليه العرش رؤية استراتيجية متقدمة تعكس وعياً عميقاً بتحديات الدولة الأردنية وإمكاناتها، تنطلق رؤاه من مفاهيم الأمن الوطني، والعدالة الاجتماعية، وتمكين الشباب، وبناء اقتصاد إنتاجي قائم على التكنولوجيا والفرص العادلة، في كل ورقة نقاشية أو خطاب عرش، نجد وضوحاً في المسار، وانحيازاً للمواطن، وتركيزاً على المؤسسات لا الأشخاص، غير أن الفجوة ما تزال قائمة بين هذا الأفق الملكي الطموح والتطبيق الحكومي، ما يطرح سؤالاً ملحاً: لماذا تتكرر ذات الإخفاقات رغم وضوح الرؤية؟ ولماذا تبقى بعض الوزارات والإدارات وكأنها تعمل خارج هذا النسق الإصلاحي الوطني؟
أزمة التنفيذ: حين تغيب الإرادة أو تتعطل القدرة
إن أكثر ما يعطل مسيرة الإصلاح في الأردن ليس نقص الرؤية، بل افتقار بعض الجهات التنفيذية إلى الإرادة السياسية أو الكفاءة الإدارية لتحقيقها، كثيراً ما نسمع عن خطط واستراتيجيات، لكنها تظل حبراً على ورق أو تُنفذ جزئياً بطريقة تُفرغها من مضمونها، هناك فجوة مزمنة بين صانع الرؤية ومنفذ القرار، بين من يوجه البوصلة ومن يُمسك بالدفة، فهل تعاني الحكومات المتعاقبة من قصور في فهم التوجيهات العليا؟ أم أن هناك مصالح ضيقة تعيق التنفيذ؟ ما نحتاجه اليوم ليس مزيداً من "الوعود"، بل قدرة تنفيذية صلبة تترجم التوجيهات الملكية إلى واقع ملموس.
معايير القيادة: صاحب المشروع لا صاحب المنصب
الأردن اليوم بحاجة إلى قادة ميدانيين يمتلكون مشروعاً وطنياً واضحاً، لا مجرد "منصب" بانتظار تقاعد مبكر أو امتياز وظيفي، القائد الفعّال هو من يملك الجرأة على التغيير، ويتحرك وفقاً لمؤشرات الإنجاز، ويقيس نفسه بنتائج حقيقية لا بشعارات، مرحلة التحول الوطني لا تحتمل المجاملات ولا المكافآت السياسية، الوطن بحاجة إلى من يصنع السياسات لا من يستهلك الوقت في الاجتماعات، المطلوب اليوم رجال دولة لا موظفون كبار، قادة يمتلكون فلسفة بناء وقراراً مستقلاً وشغفاً بالتحول لا الخضوع للروتين، هذا هو الفرق بين صاحب مشروع وصاحب منصب.
الإصلاح الهيكلي: من النوايا إلى المنظومات
الإصلاح الإداري في الأردن لا يحتاج إلى "ترقيعات" "فزعات وقتية" أو "حملات مؤقتة"، بل إلى إعادة هيكلة شاملة تُعيد تعريف دور المؤسسات وضبط علاقتها بالمواطن، المطلوب تحول في البنية الذهنية والتنظيمية لا في الشعارات، الجهاز الحكومي في بعض مفاصله يبدو وكأنه عالق في بيروقراطية خمسينيات القرن الماضي، رغم التحديات المعاصرة التي نواجهها اليوم، الإصلاح الهيكلي يجب أن يكون عملية ديناميكية، تبدأ من وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وتنتهي بتمكين الأداء عبر رقابة حقيقية وشفافية كاملة في التقييم والمساءلة (لنخرج من دائرة المحاصصة والتوريث).
الشباب: رأس المال المعطل
رغم أن أكثر من 60% من سكان الأردن هم من فئة الشباب، إلا أن هذا المورد البشري ما يزال مُعطلاً أو مُستَبعَداً من مواقع التأثير وصنع القرار، نرى مبادرات ملكية كثيرة لدعمهم، ولكن التنفيذ على الأرض إما بطيء أو شكلي، الشاب الأردني ليس بحاجة لمجرد "صورة" في لقاء أو مؤتمر، بل لفرصة عادلة ومساحة تأثير ومكان على طاولة القرار، نحتاج تمكيناً حقيقياً ينقل الشباب من خانة "المستهلكين" إلى "المشاركين" في الإنتاج والقرار الوطني، فكل استبعاد لهم هو تأجيل لمستقبل الدولة.
الفقر والبطالة: خطر الأمن الاجتماعي
لم يعُد الفقر مجرّد ظاهرة اقتصادية بل تحوّل إلى تحدٍ للأمن الوطني، فهو يزرع الاحتقان، ويغذي التطرف، ويكسر ثقة المواطن بالدولة، كذلك الحال مع البطالة، التي باتت حقلاً لتفريخ الغضب والسلبية والانغلاق، الأرقام تتحدث عن نسب مقلقة، لكن الأخطر هو الانفصام بين خطط الحكومات المتعاقبة وبين احتياجات السوق الفعلية، لا يجوز أن يبقى ملف الفقر والبطالة مجرد بند في الاجتماعات، بل يجب أن يُعلن كـ "حالة طوارئ وطنية" تستدعي تدخلاً مباشراً واستثنائياً بقيادة مركزية وبتفويض حقيقي.
الاستثمار: من البيروقراطية إلى البيئة الممكنة
المستثمر الوطني والأجنبي لا يبحث عن حوافز شكلية بقدر ما يريد بيئة مستقرة، وتشريعات عادلة، وإجراءات سهلة، للأسف، لا تزال البيروقراطية، والقرارات المرتبكة، والفساد الصغير تعيق انطلاقة الاستثمار بل وهروبه خارج الدولة، نحتاج اليوم إلى "عقلية استثمار" داخل المؤسسات لا مجرد مدير استثمار، فكل معاملة مؤجلة، وكل ترخيص متعثر، وكل جهة تُفرِط في التعقيد، هي ضربة في خاصرة الاقتصاد الوطني وفرصة ضائعة على الشعب، الإصلاح الاستثماري يبدأ من الداخل، من الإدارات، من العقل الحكومي نفسه.
الإعلام والدولة: بين الصوت الحر والرقابة الذكية
الإعلام الوطني ليس عدو الدولة، بل حليفها في البناء إن توفرت له حرية مسؤولة وفضاء نقدي ذكي، حجب الحقيقة لا يحمي الأنظمة، بل يُسرّع في تآكل الثقة، المطلوب اليوم ليس إعلاماً مروّجاً أو صامتاً، بل إعلاماً ناقداً، مهنياً، شجاعاً، يدعم الإصلاح ويكشف العلل ويوجه البوصلة، كما يجب على الدولة أن تدعم المنصات الإعلامية الجادة وتحصنها من الضغط، وتتعامل معها كأداة رقابة شعبية ذكية لا خصم يجب إسكاته، فكل صوت حر هو خط دفاع أول عن الدولة.
النخبة السياسية: التجديد لا التدوير
من غير المقبول أن تبقى النخبة السياسية في الأردن رهينة ذات الوجوه التي أثبتت محدودية الأداء، إن إعادة تدوير الفشل لا تخرج النجاح، الإصلاح السياسي يبدأ من تجديد الدماء، وإشراك الكفاءات المتوفرة وبكثرة وقد اثبتوا امكانياتهم العملية وقدراتهم التنفيذية الناجحة في كثير من الدول العربية والغربية، ولذلك لا بُد من فتح الأبواب أمام قادة جدد من الأكاديميين، ورجال الاقتصاد، وشباب المجتمع المدني، المطلوب ليس تبديل الكراسي، بل إعادة تعريف مفهوم "الجدارة السياسية"، فالوطن لم يعد يحتمل المجاملات السياسية، ولا التعيينات على أساس الولاء لا الأداء، من لا يملك مشروعاً وطنياً واضحاً، يجب أن يبتعد عن صلب القرار.
الثقة المفقودة: بين الشارع والدولة
الثقة هي العمود الفقري للاستقرار الوطني، وإذا ما تآكلت بين الدولة والمجتمع فكل السياسات تصبح عرضة للفشل، المواطن الأردني اليوم بحاجة إلى إشارات واضحة على أن الدولة جادة بالإصلاح، وأنها تسمع وتستجيب وتراقب وتعاقب، لا يمكن بناء الثقة عبر الوعود فقط، بل عبر الإنجاز، والشفافية، والإفصاح، والمحاسبة، إعادة ترميم الثقة يتطلب خطاباً جديداً، وعقداً اجتماعياً جديداً، وحكومة شجاعة تتحمل النقد وتفتح قنوات حوار حقيقية مع الشارع بعيداً عن البروتوكولات المجوّفة.
الخاتمة: الأردن بين المُمكن والإرادة
إن الأردن لا يعاني من نقص في الرؤية أو الإمكانات، بل من غياب الجسور بين القيادة والمجتمع، وبين التخطيط والتنفيذ، وبين الكفاءة والموقع، نمتلك قائداً ملكاً حكيماً معطاءً لديه رؤى حقيقية وواقعية وقوية وقابلة للتنفيذ السلس ويتمتع بشرعية تاريخية ورؤية إصلاحية تقدمية، ولكننا بحاجة إلى "صفّ ثاني" من القادة المؤهلين، لا المجاملين، من أصحاب الرؤى لا أصحاب الحظوة، هذا الوطن لا يحتاج من يصفق، بل من يعمل، لا من يراكم امتيازات، بل من يصنع فُرصاً، لا من يطالب الشعب بالصبر، بل من يُثبت أنه جدير بالثقة، اللحظة التاريخية تستدعي شجاعة، لا تأجيل، ومسؤولية وطنية، لا اصطفافاً وظيفياً.
توصيات موجهة لأصحاب القرار
1. تفعيل خلية قيادة وطنية للتنفيذ مباشرة من الديوان الملكي، مهمتها تسريع تنفيذ التوجيهات الملكية وفق مؤشرات أداء قابلة للقياس.
2. إعادة تعريف آلية اختيار الوزراء والمسؤولين بناءً على جدارة معلنة، وسيرة تنفيذية واضحة، وخطط زمنية تُلزمهم بالنتائج.
3. تحويل ملف الشباب إلى مشروع دولة، لا مبادرة، وربط مخرجات التعليم بسوق العمل عبر شراكات حقيقية بين الحكومة والقطاع الخاص.
4. إنشاء صندوق طوارئ وطني للفقر والبطالة بإدارة مستقلة، وبتفويض مباشر لتوفير حلول فورية ومبتكرة.
5. إطلاق منصة وطنية موحدة للمستثمرين تختصر الزمن والإجراءات وتتيح تتبع المعاملة لحظة بلحظة.
6. إنشاء مركز وطني للشفافية والمساءلة يتبع البرلمان، يقوم برصد الأداء الحكومي ونشره للرأي العام.
7. إجراء مراجعة جذرية لقانوني الأحزاب والانتخاب يضمن تمثيلاً حقيقياً وقيادات سياسية جديدة قادرة على خوض معركة المستقبل.
8. انشاء صندوق وطني لدعم المشاريع الصغيرة المتعثرة والتي تواجه الاقفال والتصفية بسبب تردي الأوضاع الإقتصادية وبأسرع وقت ممكن.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
20-07-2025 12:35 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |