13-07-2025 10:38 AM
بقلم : د.م. أمجد عودة الشباطات
حين تتعثر الأمم وتنهار اقتصاداتها، لا تنهض من كبوتها بالأساليب ذاتها التي سبقت الانهيار، بل تُولد في لحظات الشدة أفكار جديدة، تفرض نفسها كأدوات بقاء أولًا، ثم كوسائل نهوض وتقدم. في الغرب، وتحديدًا في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وفي ظل الشحّ الحاد في الموارد والضغوط الاقتصادية، بدأ يتبلور نوع جديد من التفكير الصناعي والإداري، لم يكن قائمًا على التوسّع، بل على تحقيق القيمة القصوى من الموارد المحدودة. فكان أن ظهرت الهندسة القيمية على يد المهندس لورنس دي مايلز في شركة جنرال موتورز، والتي دعت إلى تحقيق الغرض المطلوب بأقل تكلفة ممكنة دون التأثير على الجودة أو الكفاءة، وبأقل وقت وجهد. لم يكن ذلك مجرد تحسين تقني، بل تحوّل مفاهيمي جعل من تقليل الهدر وتحسين الأداء مسألة استراتيجية لا تفصيلًا ثانويًا
أما في الشرق، وفي اليابان تحديدًا، فقد كانت الحرب قد تركت البلاد في حالة من الانهيار الكامل اقتصاديًا ونفسيًا، لكن النهوض لم يأتِ باستنساخ تجارب الغرب، بل من خلال تطوير مسارات إنتاجية وإدارية خاصة، قادتها شركة تويوتا التي تحوّلت إلى مختبر للتفكير العميق والممارسات الجديدة، حيث بدأت بتطبيق نماذج غير تقليدية في الإنتاج والتنظيم، لفتت أنظار باحثين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
MIT
مما أدى إلى إطلاق دراسة موسعة توّجت بكتاب شهير بعنوان
The Machine That Changed the World
“الآلة التي غيرت العالم”، كشف عن نظام إنتاج جديد أُطلق عليه لاحقًا “الإنتاج المرن”
Lean Production
وهو لا يركّز فقط على تقليل التكاليف، بل على تحسين القيمة، والحد من الهدر، وتحقيق التدفق المثالي للعمل، في بيئة تتعلم وتتطور باستمرار، وهي المبادئ التي شكلت لاحقًا فلسفة “كايزن” للتحسين المستمر
ثم انتقل هذا الفكر من خطوط الإنتاج إلى غرف الإدارة، فتحوّل إلى ما يُعرف بـ “الإدارة الرشيقة”
Lean Management
والتي تسعى إلى إعادة تصميم العمليات الإدارية لتكون خفيفة، مرنة، دقيقة، وسريعة الاستجابة، مع التركيز على تمكين الأفراد وتقليل زمن اتخاذ القرار وتوجيه كل جهد نحو تحقيق الأثر الحقيقي لا مجرد الالتزام الشكلي بالإجراءات
والمؤكد أن الدول الخارجة من أزمات كبرى لا تُبنى بالأدوات القديمة، بل تحتاج إلى نماذج جديدة في التفكير والإدارة، تستند إلى الابتكار والفعالية، وتستبدل منطق السيطرة بمنطق القيمة، وتُخضع كل ما هو قائم لسؤال جوهري: هل يؤدي غرضه بأفضل صورة ممكنة؟
وفي الأردن، ورغم أن ما مررنا به لم يكن حربًا تقليدية، إلا أن سلسلة الأزمات التي تعاقبت علينا خلال العقدين الماضيين كان لها من الأثر ما يُضاهي الحروب، بدءًا من تبعات الربيع العربي، وتدفّق موجات اللجوء، ثم جائحة كورونا التي شلّت مفاصل الدولة وأرهقت قطاعاتها، مرورًا بالأزمات الإقليمية المتصاعدة، والاضطرابات الاقتصادية، وتزايد نسب البطالة، والارتفاع الكبير في المديونية، إلى جانب هشاشة بعض البُنى الإدارية، كلها ملامح تُشبه ما بعد الحرب، من حيث الحاجة إلى إعادة بناء المنظومة لا ترقيعها
وفي ضوء الرؤية الوطنية والتحديث الاقتصادي والإداري، فإننا أمام لحظة فارقة، لا تحتاج إلى تحسين جزئي أو تعديلات سطحية، بل إلى فكر إداري جديد، يعيد تعريف النجاح، ويُغيّر طريقة اتخاذ القرار، وينقل الدولة إلى عقلية الإنجاز والتأثير.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
13-07-2025 10:38 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |