24-06-2025 10:11 AM
بقلم : د. خالد السليمي
في عالم تتداخل فيه خطوط الحرب مع حدود الدبلوماسية، وتُدار فيه المعارك بأدوات ظاهرها القوة وباطنها التفاهمات، تبرز تساؤلات كبرى عن طبيعة الضربة الأمريكية التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية صباح 22 يونيو، فبينما كانت قاذفات (B-52) تُحلّق في سماء أصفهان وفوردو ونطنز، كانت إيران قد أفرغت منشآتها بهدوء، في سلوك يشي بأن ما جرى لم يكن مفاجئاً للطرفين، واليوم، تتجه الأنظار نحو الخليج، حيث تضرب إيران القواعد الأمريكية في قطر والبحرين والعراق، وسط تقارير تُلمّح إلى أن واشنطن بدأت تفريغاً تدريجياً ومُسبقاً لهذه المواقع، فهل نحن أمام تفاهم غير معلن بين العدوين، تحكمه منطقية المصالح لا شعارات الصراع؟ وهل قررت أمريكا نقل قواعدها كما نقلت إيران مفاعلاتها؟ هذه المقالة تُبحر في عمق المشهد الاستراتيجي، بين المؤشرات والاحتمالات، لتقرأ ما بين السطور: ليس فقط ما حدث، بل ما تم التوافق على حدوثه دون إعلان.
الضربة التي هزّت الشرق الأوسط: الخلفيات والنتائج الأولية
في فجر 22 يونيو، فجّرت القاذفات الاستراتيجية الأمريكية B-52 صدمة عسكرية عالمية حين قصفت المفاعلات النووية الإيرانية في نطنز وفوردو وأصفهان، ولكن المفاجأة الحقيقية لم تكن في الضربة، بل في الانسحاب الإيراني المُسبق من تلك المنشآت الحيوية، إذ تُشير تقارير استخباراتية متقاطعة إلى أن إيران فرّغت تلك المواقع منذ أسابيع، مما يُثير تساؤلات جوهرية حول وجود اتفاق غير معلن، يشمل ترتيبات متبادلة بين طهران وواشنطن، هل ما جرى هو سيناريو تم ترتيبه بعناية لحفظ ماء الوجه للطرفين؟ وهل يُمكن أن يشمل هذا السيناريو إخلاء القواعد الأمريكية في الخليج بنفس المنطق؟
انسحاب تكتيكي أم تفاهم استراتيجي؟ تحليل فرضية الإخلاء المسبق
الإخلاء الإيراني المسبق للمفاعلات يُعيد إلى الواجهة سيناريوهات الحرب النفسية والاستراتيجية المعكوسة، حيث يُنفذ الخصم عمليات محسوبة بعد إفراغ الأهداف من القيمة الاستراتيجية، المعطيات تشير إلى أن إيران، عبر قنوات دبلوماسية غير معلنة، تلقّت إشارات واضحة من قِبَل أطراف دولية بوجود نية أمريكية لاستهداف منشآتها، لكن بدل الرد الفوري، اختارت طهران إخلاء المواقع لتجنب الخسائر، وتحقيق مكسب دعائي وسياسي، في المقابل، تُطرح اليوم تساؤلات مشروعة: هل القواعد الأمريكية في قطر والبحرين والعراق وُضعت على قائمة التفريغ التكتيكي؟ وهل واشنطن بدورها تُجري انسحاباً تدريجياً مموهاً من هذه المواقع الحساسة تحضيراً لمواجهة إقليمية أوسع؟
قواعد الخليج تحت النار: إيران توسّع المواجهة المباشرة
في صباح 23 يونيو، بدأ الرد الإيراني بضربات دقيقة على قواعد أمريكية في قطر (العديد)، البحرين (الجفير)، والعراق (عين الأسد)، باستخدام صواريخ دقيقة ومتعددة المسارات، المفاجأة كانت أن أغلب الأهداف لم تُسجل خسائر بشرية أو مادية كبيرة، ما أعاد إلى السطح احتمالية أن تكون القواعد قد فُرغت بشكل جزئي أو كلي قبيل الضربة، تماماً كما حدث مع المفاعلات، هذه المعادلة تُشير إلى أن الضربات كانت محسوبة بدقة من الجانبين، في ظل ما يبدو أنه تواطؤ ضمني أو فهم مشترك على تجنب التصعيد المباشر رغم الاحتكاك العسكري المتبادل، السؤال الكبير: هل بدأت أمريكا عملية تفكيك قواعدها الخليجية؟
المخابرات والقرارات الرمادية: من يحكم زمن المفاجآت؟
التحليل الاستخباري الغربي اليوم يعترف بأن إيران لا تتصرف عشوائياً، بل تعتمد على شبكة معلومات معقدة ومتداخلة تشمل مصادر في الداخل الإقليمي والدولي، إذا كانت إيران قد عرفت مسبقاً بموعد الضربة الأمريكية، فمن المُرجح أن الولايات المتحدة أيضاً علمت بمخططات الرد الإيراني، إذاً، فغياب الأفراد والتجهيزات من المواقع المستهدفة ليس مصادفة، بل مخرجات تنسيق على مستوى غير مُعلن، هذه المعادلة تُغيّر مفهوم الحرب التقليدية، حيث تتداخل السياسة مع التكتيك العسكري، والدبلوماسية مع الاستخبارات، في حربٍ رمادية لا يُراد لها أن تتفجر بالكامل، بل أن تُدار بأسلوب النزف البطيء.
الأثر الإقليمي لانسحاب أمريكي محتمل: الخليج في عين العاصفة
إخلاء القواعد الأمريكية، إن صحّت معطياته، سيكون زلزالاً جيوسياسياً لدول الخليج، فهذه القواعد كانت عماد الردع الإقليمي، وحصناً للأمن الغربي، أي انسحاب سيُخلّف فراغاً أمنياً خطيراً ستسارع قوى كبرى، كروسيا والصين، لملئه، كما أن إيران ستعتبره نصراً استراتيجياً يُعزز من حضورها الإقليمي، خاصة إذا تزامن مع انتصارات ميدانية في غزة وجنوب لبنان، الخليج أمام مفترق طرق: إما إعادة هندسة تحالفاته الأمنية على أسس جديدة، أو الانزلاق إلى صراعات داخلية وخارجية في ظل غياب المظلة الأمريكية المعتادة.
من طهران إلى غزة: وحدة الجبهات وتنسيق النار
ما يثير القلق في الأوساط الأمنية الغربية هو التنسيق العالي الذي ظهر بين إيران والفصائل المسلحة في فلسطين ولبنان والعراق، الرد الإيراني لم يكن معزولاً، بل جاء كجزء من سيناريو أشمل لتوحيد الجبهات، ما يعني أن المعركة أصبحت متعددة الأذرع ومتصلة الهدف، هذا التنسيق يؤكد أن ضرب المفاعلات لم يُضعف محور المقاومة، بل عجّل في تفعيل شبكاته، وكلما ازدادت الضربات على غزة، زادت فعالية الرد الإقليمي، في مشهد يُذكّر بنظريات الردع اللامركزي، حيث لا توجد قيادة موحدة، لكن هناك وحدة هدف وتوقيت.
الانقسام الأمريكي الداخلي: شعب متردد ونخب قلقة
استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "غالوب" في 22 يونيو أظهر أن 56% من الأمريكيين يرفضون دخول بلادهم حرباً جديدة في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد انسحابها المُكلف من أفغانستان، النخب الفكرية والعسكرية أيضاً منقسمة، بين من يرى أن ضرب إيران كان ضرورة استراتيجية، ومن يرى أنها مغامرة قد تُكلّف واشنطن نفوذها العالمي، هذا الانقسام يضع إدارة ترامب أمام أزمة شرعية داخلية، ويجعل قراراتها العسكرية أقرب إلى الخطأ المحسوب منه إلى الانتصار السياسي، ومع ازدياد التوتر، قد تتحول الجبهات الخارجية إلى أزمة داخلية تزلزل الاستقرار السياسي الأمريكي نفسه.
وأخيرًا: إعلان أمريكا انتهاء الحرب… وسيناريو إخلاء القواعد الخليجية
في 24 يونيو، خرجت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتصريح رسمي أعلنت فيه انتهاء العمليات العسكرية بين إيران وإسرائيل، بعد أيام من تصعيد غير مسبوق، الإعلان الأمريكي جاء بعد وساطة مزدوجة بذلتها كل من قطر وروسيا، وُصفت بالدقيقة والمعقدة، وأفضت إلى تهدئة فورية شملت وقف إطلاق النار، وعدم التصعيد من الطرفين، ما لم يُعلن بشكل صريح، ولكن فهمه المراقبون بدقة، هو أن هذه الحرب القصيرة شملت اتفاقاً ضمنياً على تفريغ الأهداف ذات الطابع الرمزي والاستراتيجي مسبقًا: فقد أخلت إيران مفاعلاتها النووية الحساسة في نطنز وفوردو وأصفهان قبل الضربة الأمريكية، بطريقة توحي بإدراكها المسبق للضربة دون إعلان استسلام مباشر، في المقابل، ورغم ضراوة الرد الإيراني الذي طال قاعدة العديد في قطر، لم تُسجل إصابات أمريكية تُذكر، وسط تسريبات تفيد بأن واشنطن سحبت معظم جنودها وتجهيزاتها من القاعدة قبل الضربة بساعات، بذلك، يبدو أن الطرفين شاركا في مسرحية محسوبة لتأكيد القوة وتثبيت الردع، دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة، الإعلان الأمريكي عن انتهاء الحرب لم يكن إعلان نصر، بل نهاية فصل من إعادة التموضع الاستراتيجي الأمريكي في المنطقة، وتحول قواعد الخليج من رموز للهيمنة إلى عبء سياسي وأمني تمهيداً لمرحلة جديدة من توازن القوى القائم على تفادي الاشتباك المباشر.
الخاتمة
لقد كشفت الأيام الماضية، وتحديداً من 13 وحتى 24 يونيو، عن طبقات عميقة من التحولات الجيوسياسية والعسكرية التي لم تعُد تُدار فقط عبر الاشتباكات المباشرة، بل من خلال تفريغ الرموز والمواقع الحساسة من مضامينها الاستراتيجية قبل أن تُقصف، وكأن العالم بأسره بات يُمارس الحرب دون حرب، إن الضربة الأمريكية للمفاعلات النووية الإيرانية، تلاها الرد الإيراني المحسوب على القواعد الأمريكية، كلها تمت ضمن إطار تفاهمات غير معلنة، لكنها واضحة في نتائجها: الحفاظ على ماء الوجه، وتثبيت قواعد اشتباك جديدة، وتجنب الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة، فأمريكا، بإعلانها انتهاء الحرب، لا تُعلن نصراً عسكرياً وإن كان كل طرف سيتغنى بأنه المُنتصر، بل تُقرُّ بواقع استراتيجي جديد أكثر هشاشة، حيث تنكمش مظلتها في الخليج، وتزداد حاجة دول المنطقة لإعادة بناء منظوماتها الدفاعية والتحالفية بشكل مستقل، أما إيران، فقد أثبتت أنها لاعب إقليمي لا يمكن تجاوزه، وخرجت من الجولة بتموضع أكثر رسوخاً، ما حدث لم يكن مجرد تبادل نيران، بل تمرين واقعي على شكل الحروب القادمة: صدامات محسوبة، تفريغ أهداف، ونقل ساحات المعارك إلى الوراء، مع تمويه الحقيقة خلف الضجيج الإعلامي، نحن اليوم أمام نظام عالمي جديد لا تُصاغ قواعده بالقمم، بل بالصواريخ التي لا تُريد أن تصيب، والسؤال الحقيقي الآن: هل نشهد بداية استقرار مستقر، أم هدوءً ما قبل عاصفة كبرى قد تنفجر من غزة أو مضيق هرمز أو حتى من قاعدة فارغة في قلب الخليج؟، الخطر لا يكمن في الحرب، بل في من يظن أنه أنهى الحرب، بينما الحقيقة أن الصراع قد بدأ لتوه... بشكل مختلف.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
24-06-2025 10:11 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |