17-06-2025 08:57 AM
بقلم : د. دانا خليل الشلول
يواجه قطاع التعليم العالي في الأردن تحديات متجددة، لعلَّ أبرزها ضمان جودة المخرجات الأكاديمية، خاصة تلك التي تأتينا من جامعاتٍ خارج المملكة، وفي هذا السياق، برزت أهمية التعليمات الجديدة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي الخاصة بمعادلة الشهادات غير الأردنية، والتي فرضت شروطًا أكثر صرامةً على مدة إقامة الطالب في بلد الدراسة، حيثُ أصبحت (20) شهرًا موزعةً على خمسة فصولٍ دراسيةٍ، بحيث لا تقل كل فترة إقامة عن (4) أشهر متصلةٍ او فصلٍ دراسيٍ كاملٍ، هذه التعليمات، التي تشترطُ إقامة فعلية ومنتظمة للطالب، تأتي لتعزز من مستوى التعليم وتضمن جودة الشهادات الممنوحة.
وفي الوقت الذي رحبت الأوساط الأكاديمية والمهنية بهذه الخطوة نحو تعزيز الجودة لمخرجات التعليم في الخارج، تبرزُ شكاوى بعض الطلبة من قرار الإقامة لمدة (20) شهراً، حيثُ يدَّعي هؤلاءِ الطلبة أنَّ هذا القرار يُشكلُ ظلمًا لهم وحرمانًا من حقهم في التعليم نظراً لالتزامهم بوظائف في الأردن أو عدم قدرتهم على تحمل مشاق السفر والإقامة لفترةٍ طويلة، داعينَ الى العودة للتعليمات القديمة التي كانتْ تكتفي بثمانية أشهر أو حتي خمسةِ أشهرٍ فقطْ وفقاً للنظام الذي كان سارياً في فترة تفعيل قانون الدفاع في المملكة الأردنيّة الهاشميّة خلال جائحة كورونا، فما هي الرواية الصحيحة في هذا الشأن؟ وهل يتعارض هذا التنظيم مع مبدأ حق التعليم؟ وهل قرار اليوم بعودة النظام القديم يُمثّل قراراً صائباً وخطوةً إيجابيّة؟
لماذا العشرونَ شهرًا أفضل من الثمانية أشهر؟
كانتْ التعليمات السابقة تسمح بمدة إقامةٍ أقصر، وهو ما كانَ يفتح الباب أمام بعضِ الممارسات التي قد تؤثر سلبًا على جودة التعليم، فالمدة القصيرة لا تتيح للطالب الاندماج الكافي في البيئة الأكاديمية للجامعة، أو الاستفادة الكاملة من مرافقها ومواردها، كما أنَّها قد لا تعكس التزامًا حقيقيًا بالدراسة، وقد تتحولُ الشهادةُ الى مجردِ "ورقةٍ" لا تعكسُ عمقًا معرفيًا أو بحثيًا حقيقيًا.
إنَّ شرط الإقامة لمدة (20) شهرًا، والذي يشمل الانتظام في بلد الدراسةِ لفتراتٍ متصلةٍ، هو خطوةٌ استباقيةٌ ومهمةٌ جدًا، فهذا الشرط لا يضمن فقطْ حضور الطالب للمحاضرات، بل يضمنُ أن يكون الطالب جزءًا لا يتجزأُ من العمليةِ التعليمية بكلِ أبعادها، فالاندماجُ الفعلي في البيئةِ الجامعية يتيحُ للطالب الاستفادة القصوى من الموارد البحثية المتاحة كالمكتبات والمختبرات وقواعد البيانات المتخصصة، إضافةً الى التفاعل المباشر مع الأساتذة والخبراء والزملاء، وحضور المناقشات للرسائل الجامعية لطلبة الماجستير والدكتوراه التي ستساعدهم حتماً في إعداد أطروحاتهم الخاصة، فهذا التفاعل يبني شبكاتٍ أكاديمية ومهنية قيمة، ويعززُ من مهارات الطلبة الضروريّة؛ كالتفكيرِ النقدي، حل المشكلات، والقدرةِ على العملِ ضمنَ فرقٍ متنوعة الثقافات، فحتى في غيابِ المواد الدراسيةِ المباشرة، يحتاج الطالب الى هذه البيئة الحاضنة للتعلّم المستمرِ، كحضورِ الندواتِ وورشِ العمل، واكتشافِ فرص البحث التطبيقية، مما يصقلُ مهاراتِه البحثية والمعرفية، كما أنَّ مرحلة الدكتوراه ليست مجرد إنجاز رسالة بحثيةٍ وحسب، بل هي عملية بناءٍ لشخصيةٍ خبيرةٍ قادرةٍ على الابتكار والإبداعِ، والتحليلِ العميقِ، والمساهمة الفاعلةِ في مجالها، فهذا الانغماس الأكاديمي هو ما يصقل مهارات الطالب البحثية والمعرفية، ويجعلُ شهادته ذات قيمةٍ حقيقيةٍ ومضافةٍ لسوق العمل الأردني وحاجة المؤسسات التعليميّة.
فضلاً عن أنَّ العودة إلى التعليمات القديمة ستشكل تراجعًا خطيرًا عن المكتسباتِ التي حققتها هذهِ التعليمات الجديدة، فالإصرار على المضي في تطبيق التعليمات الحالية يعززُ من سمعة الشهادات الاردنية، ويطمئنُ أرباب العمل والقطاعات المختلفة بأنَّ الخريجين القادمين من الخارج يحملون مؤهلات أكاديمية راسخة ومبنية على أسسٍ علميةٍ متينةٍ، كما إنَّ الحفاظ على جودةِ مخرجات التعليم العالي هو استثمارٌ في مستقبل الأردن الاقتصادي والاجتماعي. كما تهدفُ هذهِ التعليمات إلى ضبط عملية الحصولِ على الشهادات العليا في الأردن ، فلقد شهدَ السوق الاردنيُ في فتراتٍ سابقةٍ تزايدًا في أعداد الحاصلين على درجاتٍ عليا قد لا تتناسبُ بالضرورةِ مع احتياجاتِ سوقِ العملِ الفعلية في بعضِ التخصصات، كما لا تتناسب مع قدراتهم الأكاديميّة الحقيقيّة، لذا؛ فإنَّ المضي بالالتزام في شروط المعادلة الجديدة يضمن أن يلتحق ببرامج الدراسات العليا وخاصةً الدكتوراه فقطْ الطالب الذي يمتلكُ جديةً والتزامًا حقيقيينِ بالبحثِ العلميِ والتخصص، وليحصل على الشهادة من يستحقُها بجدٍ واجتهادٍ، حيث أنَّ هذا يساهمُ في تخريج كفاءاتٍ نوعيةٍ تلبي احتياجات سوق العمل المتزايدة.
كما أنَّ هذا التوجه يصبُ مباشرةً في صالح تنمية الاستراتيجية الوطنية للموارد البشريةِّ، ويعملُ على توازن الهرم التعليمي في الأردن، كما يضمن مواءمة مخرجات التعليم العالي مع احتياجات سوق العمل والبحث العلمي الفعلية، كما يضمن أكبر قدرٍ ممكن من العدالة في توفير العدالة وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين حاملين الشهادات العليا لا سيّما في الوظائف التي تتطلب هذه الشهادات كمتطلب للحصول على الوظيفة كالوظائف الأكاديميّة؛ لتخفف من عبء المنافسة مع الأشخاص حاملين الشهادات العليا لمجرد رغبتهم في الحصول عليها، كما يزيد من تفاعل الطلاب مع البيئة الأكاديمية والبحثية، ويجنبنا تكرار تجارب سابقة، مثلما حدث مع الشهادات القادمة من بعض الجامعات السودانية، وهو ضمان لحصول الطالب على شهادته بالانتظام وعن جدارة دون أي شك بوجود عمليات بيع للشهادات أو أي تحايل، حيثُ أنَّ خفض متطلبات الاقامة قد يؤدي الى أزمة في جودة الشهادات والاعتراف بها، وهذا ما يؤكّد أنَّ هذه العليمات ليست حرمانًا من الحق في التعليم، ولا استبداداً في استخدام السلطة بإصدار تعليماتٍ وقوانينٍ ظالمة، بل هي تنظيمٌ يهدف إلى ضمان جودة المخرجات، وتوجيه الاستثمار في التعليم بما يخدم مصلحة الطالب والوطنِ على حدٍ سواءٍ.
لذا، من الضروري بمكان أن تستمر وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في تطبيق هذهِ التعليمات الجديدة دون أيِّ تراجع، بل والعمل على تطويرها بما يخدمُ مصلحة الطالب وسوق العمل للارتقاء بأردننا نحو الأفضل، ومن الجدير بالذكر أنَّ التشدد في معاييرِ الجودة ليس تقييدًا للطالب، بل هو حمايةٌ لمستقبلِه ومستقبلِ الوطن بأكملِه، فالهدفُ الأسمى من التعليم العالي، خاصةً في درجاتِه العليا كالدكتوراه، هو صقلُ الكفاءات وتخريج خبراء حقيقيين قادرين على إحداث فرق جوهري في مجالاتهم، لا مجرد حاملين لشهادةٍ ورقيةٍ.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
17-06-2025 08:57 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |