حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الأربعاء ,24 أبريل, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 17911

أنا مريضة ..

أنا مريضة ..

أنا مريضة ..

26-03-2008 05:00 PM

تعديل حجم الخط:

بقلم :

 

أنا مريضة... بل أشعر -من شدة الألم- أنني على حافة الموت، صداع في رأسي ودوار يجرفني بعيدا عن المكان، مغص في معدتي وآلام منبطحة في كل مفاصلي، وقلبي الصغير يخفق بسرعة لاهثة تارة وببطئ بليد تارة أخرى... والحمى تقودني رغما عني إلى الهذيان وتلقيني في قاع البرد والارتجاف... لا أسمع شيئا سوى وساوس الشيطان تهمس لي بأن أُنهي عذاباتي بيدي وكفاني انتظار... ولا أرى أمامي سوى سحب سوداء تتجمع وتتكاثف وقد تلطخت ببقع دماء حمراء...

ما الذي أصابني؟ ولما كل هذا الوجع المتمرد ينقض على وحدتي خلسةً بصمتٍ جبان؟

هل أذهب الآن إلى المستشفى أم إلى طبيب خاص أم إلى قسم الطوارئ؟

ولكن ما الي سيقوله لي الطبيب؟ سيخبرني بأن أنتظر الموت القادم بصمت وصبر ويطلب مني الدعاء والاستغفار...

أعرف أن علّتي لا دواء يشفيها ولا علاج يبريني منها...

يعرف الأطباء أن المهدئات في حالتي غير ناجعة... وأنهم لو وصفوا لي عشرين كأسا من النبيذ أشربها يوميا بعد الإفطار ومع وجبة الغداء وقبل النوم متذرعين بوضعي الصحي المتدهور فإنني شأخسر كبدي دون أن أشفى...

ربما سيعترفون لي بأن حالتي متأخرة... وأنه علي إجراء عملية جراحية فورية لاستئصال الدماغ والقلب والوعي والذاكرة والإحساس والأوعية الدموية والعينين والأذنين ومجرى القناة الدمعية وأنهم سوف يحشونني بالقطن أو الطين أو الإسمنت أو الريش أو الوحل...

هل ألوم نفسي على هذا الألم المتوغل في أحشائي؟ وهل أعاتبني على فعل نزق وطائش قمت باقترافه في لحظة خرقاء فسبّب لي كل هذا المرض والوجع والألم الذي فاق حدود احتمالي؟

كل ما فعلته هو أنني أردت وبعد يوم حافل بالعمل أن آخذ قسطا من الراحة، ولأنني ومنذ سنوات –ربما- لم أشاهد أية قناة موسيقية ولم أستمع لمقطوعة موسيقية أو أغنية عربية عبر شاشة التلفاز فقد قررت -وبعد طول انقطاع دام أكثر من عامين- أن أفتح على قناة "زوم" الموسيقية... ولأن حظي دائما عاثر، وطالعي سيئ فقد فتحت على القناة "زوم" في اللحظة التي بدأت القناة فيها ببث أغنية "الضمير العربي" التي تضم حوالي مائة فنان عربي وهي من فكرة وإخراج السيد أحمد العريان...

بدأت الأغنية وشعرت في البداية أنني أستمتع بالاستماع إلى الأصوات الشجية وهي تتحسر على موت النخوة العربية فينا... ولكن بدأت الأمور تتطور... وراحت المشاهد تتلاحق... وصور الدماء والقتلى والأطفال تنهال كالسيل أمامي... رباه... أمهات يصرخن ويبكين على أطفالهن وأبنائهن وأزواجهن وذويهن... يلطمن خدودهن وصدورهن ويمرغن وجوههن بالتراب ويملأن فضاء العالم بكاءً وعويلا ونحيبا... شباب في ربيع العمر كندى الفجر كإطلالة البدر ونسيم   ليلة منسية في درب الذكرى يُضربون من قبل الجنود الإسرائيلين والصهاينة الحاقدين تارة ومن قبل الجنود الأمريكان والبريطانيين المتوحشين تارة أخرى، يضربونهم على رؤوسهم وفي بطونهم وعلى خواصرهم ويركلونهم بأرجلهم القذرة، يصفعونهم على وجوههم كأبشع وأحقر وسيلة لكسر ظهر الكرامة والرجولة والإباء فيهم... ثم يجرجروهم على الأرض وفي الطرقات إلى غياهب الأسر أو يقتلونهم أمامنا برصاصة في الرأس حينا وفي الصدر حينا آخر... نعم... رأيتهم يقتلون الشباب بالبنادق أمام عدسات التصوير... أمامي وأمامكم وأمام العالم بأسره...

لم تنفجر صور العذاب والموت والتفجيرات من الأراضي الفلسطينية فحسب... بل إن المُخرج تعمّد على تجميع أكبر عدد ممكن من الصور التي رصدت كل الأحداث التي تجري في المنطقة العربية من العدوان الإسرائيلي الغاشم المتجدد على جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية الطاهرة   إلى الاقتتال الفلسطيني-الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس ثم حرب العراق والاقتتال الطائفي هناك مرورا بلبنان والأزمة التي يشهدها، دون أن ينسى عملية اغتيال الحريري وعاد إلى اغتيالات أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، ثم عرّج على أواخر أيام القائد ياسر عرفات قبل سفره ووفاته (مسموما) في فرنسا...

الصور ما زالت تتلاحق... تهدر أمامي كالطوفان... ودموعي –رغما عني- تتظاهر في تجمعات كبيرة وغاضبة وهائجة تُكسّر كل ما يتصدى لها من قوة صمودي وتعلن العصيان على الصمت وتنفجر... وأنا لم أعد أقاوم، تركتها تتظاهر وتصرخ وتثور وتُثير في وجهي عاصفة من الماء والدماء والذل والألم والقهر...

والرجل العاري ما زال يركض هربا من الكلاب في سجن أبوغريب...

ومجموعة أخرى من الرجال عراة إلا من الاختناق والذل والعجز كُوّموا فوق بعضهم البعض أيضا في سجن أبوغريب...

أطفال صغار لم يمض على وجودهم على مسرح الحياة القبيح سوى بضع سنوات قد حوّلتهم ديمقراطية بوش وعدالة هيئة الأمم المتحدة وصمت حكوماتنا العربية المتواطئة ونفوذ اللوبي الصهيوني العالمي إلى أشلاء ودماء ودمعة حسرة في قلب أم ثكلى وأب مفجوع...

وفتاة عراقية لم تتجاوز العاشرة من العمر تبكي خوفا وجزعا وقد وجّه بعض أفراد الجيش البريطاني بنادقهم نحو رأسها...

وبعضهم الآخر راح يضرب الشباب العراقي بالعصي والبنادق بعدما أطاحوهم أرضا وأخذوا يركلونهم بأرجلهم على رؤوسهم...

جنود صهاينة تمسك بأحجار وتتجمع حول فتى لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره ليضربونه بالأحجارعلى رأسه ويتعمدون كسر ذراعه عقابا له على جريمة الدفاع عن الأرض بالحجر حتى أردوه قتيلا... لا... بل شهيدا...

دموع وأشلاء ودماء ودموع وأشلاء وبقايا ودماء وعجز وقهر ودموع ودماء....

الصورة ذاتها تتكرر والمجرم نفسه يعود والضحايا تتعدد وتتعدد وتتزايد...

الجيش الصهيوني والمستوطنون اليهود يقتلون بالرصاص شيخا يدافع عن أرضه...

منازل تُقصف وتُهدم... جسور تتفجر وتقع... أشجار تجرف وتقتلع...

وتسيل الدماء من شاشة التلفاز إلى حلقي...

وتفوح رائحة البارود في قلبي...

أليس من الممكن أن تكون والدتي إحدى هؤلاء الثكالى والأرامل والمنكوبات؟

أليس من الممكن أن يكون أخي أحد هؤلاء الشباب الذين يتساقطون كورق الخريف؟

أليس من الممكن أن يكون والدي أو أحد أقاربي هو ذلك الشيخ المقتول غدرا؟

أليس من الممكن أن تكون هذه الأشلاء الصغيرة الملطخة بدمائها وعارنا هي أشلاء ابني أنا؟

بعيد الشر؟ لا... إن الشر ليس ببعيد... بل هو قادم وقادم ووشيك...

أردت أن أطفئ التلفاز فما قد شاهدته كان أكبر من قدراتي المحدودة على الاحتمال، إلا أنني شعرت بالاشمئزاز من رغبتي الدنيئة بالهروب... شعرت أنني بهروبي أتواطؤ معهم علينا... فقررت أن أتجرع الكأس حت النهاية...

وما أسوأ النهاية... كل ما شاهدته من قتل ودمار ودماء وعويل ولطم وضرب وإهانة وكلاب ضالة تلتهم يد امرأة شابة لم يستفزني كما استفزتني مشاهد الدم الفلسطيني يُراق على ورق المؤامرة والفتنة بين فتح وحماس...

وما زالت الصور تتلاحق وقلبي يتمزق... وسؤال مذهل يربك حيرتي... هل حقا نحن أحياء؟ هل حقا ما يجري في شراييننا وأوردتنا هي حقا دماء؟ هل نستطيع مشاهدة كل هذا الذي يحدث ثم نذهب ونأكل ونشرب ونعمل ونكتب لا بل ونتسوق ونسافر ونتسامر ونضحك ثم ندّعي أن بين ضلوعنا فؤاد ينبض ووعي مدرك وأننا حقا عقلاء؟

منذ اليوم لن أعلم ابني ضرورة الاجتهاد والمثابرة في الدراسة، حتى يلتحق بالجامعة ليحصل على شهادة علمية مشرّفة ليخدم من خلالها وطنه وليحصّن بها مستقبله... لا... منذ اليوم سألقّنه معنى الرجولة والوطن والشرف والحرية والكرامة والانتماء... سأعلّمه أهمية الاستشهاد في مرحلة تعتبر كل الشهادات العلمية فيها ترف وبذخ ومدعاة للسخرية... سأروي له عن بطولات خالد بن الوليد وحمزة بن عبد المتطلب وشجاعة عمر بن عبد العزيز وعلي بن أبي طالب... وسأقنعه بأنني لست إرهابية ولا متطرفة إلا أنه صاحب حق في المقاومة والأرض والحياة...

 

بقلم: د. آية عبد الله الأسمر

 


لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا






طباعة
  • المشاهدات: 17911
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
26-03-2008 05:00 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل تكشف استقالة رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وصول الردع الإسرائيلي لحافة الانهيار ؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم